قَدرَه أو جهِلا وَصفَه أو جهِلاهما معًا، وسَواءٌ كانَ ممَّا يَتعذَّرُ عِلمُه أو ممَّا لا يَتعذَّرُ عِلمُه؛ لأنَّه إسقاطُ حَقٍّ، فيَنفُذُ مع العِلمِ والجَهلِ كالعِتقِ والطَّلاقِ، ولأنَّ النَّبيَّ ﷺ قالَ لرَجلَين اختَصَما في مَواريثَ درَسَت بينَهما:«استَهِما، وتوَخَّيا الحَقَّ، وليُحلِلْ أحدُكما صاحِبَه»(١)، ولأنَّه إِسقاطٌ فصَحَّ في المَجهولِ، وكما لو قالَ:«من دِرهمٍ إلى ألفٍ»، ولأنَّ الحاجةَ داعيةٌ إلى تَبرئةِ الذِّمةِ ولا سَبيلَ إلى العِلمِ بما فيها، فلو وقَفَت صِحةُ البَراءةِ على العِلمِ لَكانَ سَدًّا لبابِ عَفوِ الإِنسانِ عن أخيه المُسلمِ وتَبرئةً لذِمَّتِه فلم يَجزْ ذلك كالمَنعِ من العِتقِ.
وأمَّا إنْ كانَ مَنْ عليه الحَقُّ يَعلمُه ويَكتُمُه المُستحَقَّ خَوفًا من أنَّه إذا علِمَه لم يَسمَحْ بإِبرائِه منه فلا تَصحُّ البَراءةُ فيه؛ لأنَّ فيه تَغريرًا بالمُشتَري، وقد أمكَنَ التَّحرُّزُ منه.
ولو أبرَأَه مِنْ مِئةٍ وهو يَعتقدُ أنَّه لا شَيءَ له عليه، وكانَ له عليه مِئةٌ ففي صِحةِ البَراءةِ وَجهانِ:
أحدُهما: صِحتُها؛ لأنَّها صادَفَت مِلكَه فأسقَطَته كما لو علِمَها.
والثاني: لا تَصحُّ؛ لأنَّه أبرأه ممَّا لا يَعتقدُ أنَّه عليه؛ فلم يَكنْ ذلك إبراءً في الحَقيقةِ.
وأصلُ الوَجهَينِ ما لو باعَ مالًا كانَ لمَوروثِه يَعتقدُ أنَّه باقٍ لمَوروثِه وكانَ مَوروثُه قد ماتَ وانتقَلَ مِلكُه إليه، فهل يَصحُّ؟ فيه وَجهان.