للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحالةُ الثانيةُ: استِثناءُ الكَثيرِ من القَليلِ:

اختَلفَ الفُقهاءُ في حُكمِ استِثناءِ الكَثيرِ مِنْ القَليلِ، كما لو قالَ: «له علَيَّ عَشرةُ دَراهمَ إلا تِسعةً» هل يَصحُّ ويَلزَمُه دِرهَمٌ واحِدٌ أو لا يَصحُّ ويَلزَمُه العَشرةُ؟

فذهَبَ الحَنفيةُ في ظاهِرِ الرِّوايةِ والمالِكيةُ في الصَّحيحِ عِندَهم والشافِعيةُ إلى أنَّه يَصحُّ استِثناءُ الأكثَرِ مِنْ الأقَلِّ، فإنْ قالَ: «له علَيَّ عَشرةُ دَراهمَ إلا دِرهمًا» لزِمَه دِرهمٌ؛ لقَولِه تَعالَى: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ

مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (٤٢)

[الحجر: ٣٩ - ٤٢]. فاستَثنى الغاوينَ مِنْ المُخلَصينَ تارةً والمُخلَصينَ مِنْ الغاوينَ أُخرى، وإِحدى الطائِفتَينِ أكثَرُ مِنْ الأُخرى، فدَلَّ على جَوازِ استِثناءِ الأكثَرِ، ولأنَّ استِثناءَ الأكثَرِ مَوجودٌ في كَلامِهم، وظاهِرٌ في أَشعارِهم. قالَ الشاعِرُ:

رُدُّوا التي نقَصَت تِسعينَ عن مِئةٍ ثم ابعَثوا حَكمًا بالحقِّ قَوالا

ولأنَّ الخارِجَ بالاستِثناءِ غيرُ داخِلٍ في اللَّفظِ ولا مُرادٍ به، فاستَوى حُكمُ قَليلِه وكَثيرِه، وإذا كانَ كذلك قالَ: «له علَيَّ ألفٌ إلا تِسعَمِئةٍ» صَحَّ.

ولأنَّ حَقيقةَ الاستِثناءِ أنْ يَخرُجَ مِنْ الكَلامِ ما لَولاه لوجَبَ تَناوُلُه، هكذا في حَدِّه أهلُ العَربيةِ، ولم يَقصُروا ذلك على أنْ يَكونَ أقَلَّ مما بَقيَ أو أكثَرَ، ولأنَّ الغَرضَ بالاستِثناءِ كأنَّه استِدراكٌ للمُتكلِّمِ على نَفسِه فيما أطلَقَه مِنْ الصِّيغةِ العامةِ، وذلك يَستَوي فيه القَليلُ والكَثيرُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>