وانظُرْ ما تقدَّمَ في الطَّعامِ المُستهلَكِ أنَّه إنْ أخَذَ ما لا يَشكُّ أنَّه أَقلُّ مِنْ طَعامِه جازَ معَ ما تقدَّمَ لابنِ حَبيبٍ مِنْ قِسمةِ الزَّرعِ المَخلوطِ على حَسبِ الزَّريعةِ، معَ ما تقدَّمَ لابنِ رُشدٍ مِنْ تَخفيفِ اقتِسامِ الطَّعامِ المَخلوطِ بالقِيمةِ.
ولو خلَطَ عَداءً هل يَكونُ ذلك كلُّه مُسوِّغًا للذين يَخلطونَ أَلبانَهم أنْ يَأخذَ الإِنسانُ مِنْ الجُبنِ القَدرَ الذي لا يَشكُّ أنَّه يَخرجُ له مِنْ لَبنِ غَنمِه لو أفرَدَها؟ وقد بسَطْت في «سُنن المُهتدينَ» أنَّ إِقدامَ المَرءِ على شَيءٍ بتَأويلٍ ليسَ كمَن أقدَمَ عليه مُجاهِرًا، ومَن أكَلَ حَرامًا يَعتقدُ أنَّه حَلالٌ أُثيبَ على قَصدِه ولا يُعاقَبُ على فِعلِه ولا يُظلمُ به قَلبُه، ومَن أقدَمَ على حَلالٍ صِرفٍ يَعتقدُ شُبهتَه قَسا قَلبُه به وأظلَمَ، وإنْ كانَ مُعتقِدًا حُرمتَه كانَ ذلك جُرحةً فيه، وعليه دَركُ المُخالَفةِ معَ كَونِ ذلك الشَّيءِ في نَفسِه حَلالًا صِرفًا (١).
إِتلافُ الوَديعةِ بأَمرِ صاحِبِها:
نصَّ الفُقهاءُ على أنَّه لا يَجوزُ للإِنسانِ أنْ يُتلفَ مالَ غيرِه ولو بإِذنِه، فإذا قالَ ربُّ الوَديعةِ للمُودَعِ: أَتلِفْ وَديعَتي أو أَلقِها في البَحرِ أو أَحرِقْها بالنَّار لمْ يَجزْ له أنْ يَفعلَ ذلك؛ لأنَّ اللهَ تَعالى نَهى عن إِتلافِ المالِ.
إلا أنَّ الفُقهاءَ اختلَفُوا فيما لو أقدَمَ على إِتلافِها وأتلَفَها بإِذنِ ربِّها هل يَضمنُها أم لا؟
فذهَبَ جُمهورُ الفُقهاءِ الحَنفيةُ والمالِكيةُ في قَولٍ والشافِعيةُ والحَنابِلةُ إلى أنَّه لا ضَمانَ عليه؛ لإِذنِ ربِّها له بذلك؛ لأنَّ الحقَّ في الوَديعةِ ثابِتٌ