ويَجعَلُ المُدَّعِي واهِبًا لِلنِّصفِ إنْ كان صادِقًا، ومَوهوبًا له إنْ كان كاذِبًا، ولا يُبالَى باختِلافِهما في ذلك.
ويُستَثنى مِنْ مَحَلِّ الوَجهَيْنِ ما إذا كان المُدَّعَى دَينًا وتَصالَحا عن ألْفٍ على خَمسِمِئةٍ في الذِّمَّةِ، فإنَّه لا يَصحُّ جَزمًا؛ لأنَّ الصَّحيحَ إنَّما هو تَقديرُ الهِبةِ، وإيرادُ الهِبةِ على ما في الذِّمَّةِ مُمتَنَعٌ بخِلافِ ما إذا صالَحَه على خَمسِمِئةٍ مُعيَّنةٍ؛ فإنَّه لا يَصحُّ في الأصَحِّ.
فإذا ثَبَت أنَّ الصُّلحَ مع الإنكارِ لا يَجوزُ، فلو صالَحَه مع إنكارِه كان الصُّلحُ باطِلًا ولَزِمَ رَدُّ العِوَضِ، ولَم يَقَعِ الإبراءُ حتى لو صالَحَه مِنْ ألْفِ دِرهَمٍ قد أنكَرَها على خَمسِمِئةِ دِرهَمٍ وأبرَأه مِنَ البَقيَّةِ لَزِمَه في الحُكمِ رَدُّ ما قبَض، ولَم يُبرَأْ مما بَقيَ حتى لو أقامَ بالألْفِ بَيِّنةً عادِلةً كان له استِيفاءُ جَميعِها، وإنَّما كان كذلك لأنَّ ما قَبَضه بالصُّلحِ الفاسِدِ لا يَملِكُه كالمَقبوضِ بالبَيعِ الفاسِدِ.
والإبراءُ كان مَقرونًا بمِلكِ ما صالَحَ به، فلَمَّا لَزِمَه رَدُّه لِعَدَمِ مِلكِه بطَل إبراؤُه؛ لِعَدَمِ صِفَتِه، وكمَن باعَ عَبدًا بَيعًا فاسِدًا فأذِنَ لِمُشتَريهِ في عِتقِه فأعتَقَه المُشتَري بإذْنِه لَم يُعتَقْ؛ لأنَّ إذْنَه إنَّما كان مَضمونًا بمِلكِ العِوَضِ، فلَمَّا لَم يَملِكْه بالعَقدِ الفاسِدِ لَم يُعتَقْ عليه بالإذْنِ.
فإنْ قيلَ: أفيَسَعُ صاحِبَ الحَقِّ أنْ يأخُذَ ما بَذَلَ له بالصُّلحِ مع الإنكارِ إذا كان مُحِقًّا؟ قيلَ: يَسَعُه ذلك، ويَجوزُ فيما بَينَه وبَينَ اللهِ ﷾، فأمَّا في ظاهِرِ الحُكمِ فيَجِبُ عليه رَدُّه.