وأيضًا: فإنَّه يَلزمُ مَنْ يَذهبُ إلى أنَّ كلَّ مُجتهدٍ مُصيبٌ إذا أداه اجتِهادُه إلى شَيءٍ، وغيرُه من المُجتهِدينَ على ضِدِّ قَولِه في ذلك الشَّيءِ، أنْ يَكونَ مُخيَّرًا فيهما، كالذي تَلزمُه كَفارةُ يَمينٍ لمَّا كانَت الحُقوقُ البَيِّنةُ مُتساويةً في كَونِها مما يَجوزُ التَّكفيرُ بها، والكلُّ مُرادٌ، كانَ مُخيَّرًا فيها، فلمَّا لزِمَ المُجتهدَ أنْ يَعملَ بما يُؤدِّي اجتِهادُه إليه دونَ ما خالَفَه من اجتِهادِ غيرِه بَدا أنَّ الحَقَّ في واحِدٍ من القَولَينِ.
ودَليلٌ آخَرُ يَدلُّ على أنَّه ليسَ كلُّ مُجتهدٍ مُصيبًا، وهو أنَّا وجَدنا أهلَ العِلمِ في كلِّ عَصرٍ يَتناظَرونَ ويَتباحَثونَ، ويَحتجُّ بعضُهم على بعضٍ، ولو كانَ كلُّ واحدٍ منهم مُصيبًا كانَت المُناظرةُ خَطأً ولَغوًا لا فائِدةَ فيها.
فإنْ قالَ المُخالِفُ: إنَّما يُناظِرُ أحدُ الخَصمَينِ الآخَرَ حتى يَغلِبَ على ظَنِّه ما أدَّى اجتِهادُه إليه، فيَرجعَ إلى قَولِه.
فالجَوابُ: أنَّه لا فائِدةَ في رُجوعِه من حَقٍّ إلى حَقٍّ، وكَونُه على ما هو عليه وانتِقالُه إلى ظَنٍّ آخَرَ سَواءٌ لا فَرقَ بينَهما، وتَحمُّلُ التَّعبِ والكُلفةِ والتَّنازُعِ والتَّخاصُمِ لما ذكَرَه المُخالِفُ ليسَ من فِعلِ العُقلاءِ، وقد وَجَدنا الأُمةَ مُتَّفقةً على حُسنِ المُناظرةِ في هذه المَسائلِ، وعَقدِ المَجالسِ بسَببِها فسقَطَ ما قالَه.
وأمَّا الجَوابُ عما احتَجَّ به من إِجماعِ الصَّحابةِ فهو أنْ يُقالَ له: أقُلتَ هذا نَصًّا أو استِدلالًا؟ فإنْ قالَ: نَصًّا، لم يَجِدْ إليه طَريقًا؛ لأنَّه لم يُنقَلْ عن أحدٍ منهم أنَّه قالَ لصاحِبِه: أقرَرتُك على خِلافِك، وأجَزتُ لكَ أنْ تَعملَ به، وسوَّغتُ للعامةِ أنْ يُقلِّدوك. وإنْ قالَ: استِدلالًا، طُولِبَ به.