للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلْتُ: والصَّحيحُ في هذه المَسألةِ أنَّ قَولَ مَنْ قالَ: لا يَجوزُ تَوليةُ قاضٍ حتى يَكونَ مِنْ أَهلِ الاجتِهادِ فإنَّه إنما عنِيَ بذلك ما كانَت الحالُ عليه قبلَ استِقرارِ ما استقَرَّ مِنْ هذه المَذاهبِ الأَربعةِ التي أجمَعَتِ الأُمةُ عليه، على أنَّ كلَّ واحدٍ منها يَجوزُ العَملُ به لأنَّه مُستنِدٌ إلى أَمرِ رَسولِ اللهِ وإلى سُنتِه. فالقاضِي في هذا الوَقتِ وإنْ لمْ يَكنْ مِنْ أَهلِ الاجتِهادِ، وإنْ لمْ يَكنْ قد سَعى في طَلبِ الحَديثِ وإِتقانِ طُرقِه، وعرَفَ مِنْ لُغةِ الناطقِ بالشَّريعةِ ما لا يَعوزُه ما يَحتاجُ إليه فيه، وغيرِ ذلك مِنْ شُروطِ الاجتِهادِ، فإنَّ ذلك مما قد فرَغَ له منه غيرُه ودأَبَ له فيه، وانتهى الأَمرُ مِنْ هؤلاءِ الأَئمةِ المُجتهدينَ إلى ما أَرى جَوابَه مِنْ بعدِهم، وانحَصرَ الحَقُّ في أَقاويلِهم، وتدوَّنَتِ العُلومُ، وانتهَتْ إلى ما اتضَحَ فيه الحَقُّ، فإذًا على القاضِي في أَقضيتِه بما يَأخذُه عنهم أو عن الواحدِ منهم، فإنَّه في مَعنى مَنْ كانَ أَداه اجتِهادُه إلى قَولٍ قالَه، وعلى ذلك فإنَّه إذا أخرجَ مِنْ خِلافِهم مُتوخِّيًا مَواطنَ الإِتقانِ ما أمكَنَه كانَ أخَذَ بالجَزمِ عاملًا بالأَولى. وكذلك إذا قصَدَ في مَواطنِ الخِلافِ تَوخِّيَ ما عليه الأَكثرُ منهم والعَملَ بما قالَه الجُمهورُ دونَ الواحدِ، فإنَّه قد أخَذَ بالجَزمِ، والأَحسنِ والأَقوى مع سواءِ أنْ يَعملَ بقَولِ الواحدِ إلا أنِّي أَكرُه له أنْ يَكونَ ذلك، مِنْ حيثُ إنَّه قرَأَ مَذهبَ واحدٍ منهم أو نشَأَ في بَلدةٍ لم يُعرفْ فيها إلا مَذهبٌ واحدٌ منهم، أو كانَ شَيخُه أو مُعلِّمُه على مَذهبِ فَقيهٍ مِنْ الفُقهاءِ خاصةً فقصَرَ نَفسَه على اتِّباعِ ذلك المَذهبِ، حتى أنَّه إذا حضَرَ عندَه خَصمانِ فكانَ ما تشاجَرَا فيه مما يَعني الفُقهاءُ الثَّلاثُ فيه بحُكمٍ بحَدِّ التَّوكيلِ بغير رِضى الخَصمِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>