للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَحكُّمٌ بلا دِلالةٍ، وتَفرقةٌ بينَ مَنْ لا فَرقَ فيه في أثَرٍ ولا نَظرٍ؛ لأنَّ في الأُصولِ أنَّ كلَّ من جازَت شهادَتُه في الجِراحِ جازَت في غيرِها.

وأمَّا اعتِبارُ حالِهم قبلَ أنْ يَتفرَّقوا ويَجيئُوا؛ فإنَّه لا مَعنى له؛ لأنَّه جائِزٌ أنْ يَكونَ هؤلاءِ الشُّهودُ هُمْ الجُناةَ ويَكونَ الذي حمَلَهم على الشَّهادةِ الخَوفَ من أنْ يُؤخَذوا به، وهذا مَعلومٌ من عادةِ الصِّبيانِ إذا كانَ منهم جِنايةٌ يُحيلُها الصَّبيُّ على غيرِه خَوفًا من أنْ يُؤخَذَ بها.

وأيضًا شرَطَ اللهُ في الشَّهادةِ العَدالةَ وأوعَدَ شاهِدَ الزُّورِ ما أوعَدَه به، ومنَعَ من قَبولِ شَهادةِ الفُساقِ ومَن لا يَزعُ عن الكَذبِ احتِياطًا لأمرِ الشَّهادةِ، فكيف تَجوزُ شَهادةُ مَنْ هو غيرُ مَأخوذٍ بكَذبِه وليسَ له حاجِزٌ يَحجِزُه عن الكَذبِ، ولا حَياءٌ يَردَعُه، ولا مُروءةٌ تَمنعُه، وقد يَضرِبُ الناسُ المَثلَ بكَذبِ الصِّبيانِ فيَقولونَ: هذا أكذَبُ من صَبيٍّ، فكيف يَجوزُ قَبولُ شَهادةِ مَنْ هذا حالُه؛ فإنْ كانَ إنَّما اعتُبِرَ حالُهم قبلَ تَفرُّقِهم وقبلَ أنْ يُعلِّمَهم غيرُهم؛ لأنَّه لا يَتعمَّدُ الكَذبَ دونَ تَلقينِ غيرِه فليسَ ذلك كما ظُنَّ؛ لأنَّهم يَتعمَّدونَ الكَذبَ من غيرِ مانِعٍ يَمنعُهم، وهم يَعرِفونَ الكَذبَ كما يَعرِفونَ الصِّدقَ إذا كانوا قد بَلَغوا الحَدَّ الذي يَقومونَ فيه بمَعنى الشَّهادةِ والعِبارةِ عما شهِدوا، وقد يَتعمَّدونَ الكَذبَ لأَسبابٍ عارِضةٍ، منها خَوفُهم مِنْ أنْ تُنسَبَ إليهم الجِنايةُ أو القَصدُ للمَشهودِ عليه بالمَكروهِ، ولمَعانٍ غيرِ ذلك مَعلومةٍ من أَحوالِهم، فليسَ لأحَدٍ أنْ يَحكُمَ لهم بصِدقِ الشَّهادةِ قبلَ أنْ يَتفرَّقوا، كما لا يُحكمُ لهم بذلك بعدَ التَّفرُّقِ، وعلى أنَّه لو كانَ كذلك وكانَ العِلمُ حاصِلًا بأنَّهم لا يَكذِبونَ ولا يَتعمَّدونَ شَهادةَ الزُّورِ فيَنبَغي أنْ تُقبلَ

<<  <  ج: ص:  >  >>