وذهَبَ جُمهورُ الفُقهاءِ الحَنفيةُ والشافِعيةُ والحَنابِلةُ في المَذهبِ إلى أنَّ البُلوغَ شَرطٌ في صِحةِ الشَّهادةِ، فلا تَجوزُ شَهادةُ الصِّبيانِ بحالٍ من الأَحوالِ لا في مالٍ ولا في جِراحٍ، واستدَلُّوا على عَدمِ جَوازِها بما يَلي:
بقَولِ اللهِ تَعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [البقرة: ٢٨٢]، وذلك خِطابٌ للرِّجالِ البالِغينَ؛ لأنَّ الصِّبيانَ لا يَملِكونَ عُقودَ المُدايَناتِ، وكذلك بقَولِ اللهِ تَعالى: ﴿وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ [البقرة: ٢٨٢]، لم يَدخُلْ فيه الصَّبيُّ؛ لأنَّ إِقرارَه لا يَجوزُ، وكذلك بقَولِه ﷾: ﴿وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ [البقرة: ٢٨٢]، لا يَصحُّ أنْ يَكونَ خِطابًا للصَّبيِّ؛ لأنَّه ليسَ من أهلِ التَّكليفِ ليَلحَقَه الوَعيدُ، ثم بقَولِه ﷾: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨٢]، وليسَ الصِّبيانُ من رِجالِنا، ولمَّا كانَ ابتِداءُ الخِطابِ بذِكرِ البالِغينَ كانَ قَولُه ﷾: ﴿مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨٢] عائِدًا عليهم، ثم إنَّ قَولَه ﷾: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾ [البقرة: ٢٨٢]، يَمنعُ أيضًا جَوازَ شَهادةِ الصَّبيِّ، وكذلك قَولُه ﷾: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا﴾ [البقرة: ٢٨٢]، هو نَهيٌ، وللصَّبيِّ أنْ يَأبى إِقامةَ الشَّهادةِ، وليسَ للمُدَّعي إِحضارُه لها، ثم إنَّ قَولَه ﷾: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [البقرة: ٢٨٣]، غيرُ جائِزٍ أنْ يَكونَ خِطابًا للصِّغارِ، فلا يَلحَقُهم المَأثَمُ بكِتمانِها.
ولمَّا لم يَجزْ أنْ يَلحقَه ضَمانٌ بالرُّجوعِ دَلَّ على أنَّه ليسَ من أهلِ الشَّهادةِ؛ لأنَّ كلَّ مَنْ صَحَّت شَهادتُه لزِمَه الضَّمانُ عندَ الرُّجوعِ.