للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وذهَبَ الشافِعيةُ إلى أنَّ الدَّفعَ المُبرئَ لهُ هوَ أنْ يدفَعَ إلى كلِّ مِسكينٍ مُدًّا مِنْ جِنسِ الحَبِّ الذي يَكونُ فِطرةً، فتخرجُ مِنْ غالِبِ قُوتِ بلدِ المُكفِّرِ، ويَقولُ: «خُذْهُ، أو كُلْهُ، أو أبَحْتُه لكَ».


= مِنْ القَولِ وزورًا، قالَ ابنُ العربيِّ: وقَعَ الكلامُ هاهُنا في مدِّ هشامٍ كما تَرَونَ، و «وَددْتُ أنْ يُهشِّمَ الزمانُ ذِكرَه ويَمحُو مِنْ الكُتبِ رسْمَه، فإنَّ المدينةَ التي نزَلَ الوحيُ بها واستَقرَّ الرسولُ بها ووقَعَ عندَهم الظِّهارُ وقيلَ لهُم فيهِ: ﴿فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا﴾ [المجادلة: ٤] فَهِمُوه وعَرفُوا المُرادَ بهِ وأنه الشَّبعُ، وقَدرُه معروفٌ عندَهم مُتقرِّرٌ لديهم، وقد وردَ ذلكَ الشَّبعُ في الأخبارِ كثيرًا، واستَمرَّتِ الحالُ على ذلكَ أيامَ الخُلفاءِ الرَّاشدينَ المَهديِّينَ، حتى نفَخَ الشَّيطانُ في أُذُنِ هشامٍ، فرأى أنَّ مدَّ النبيِّ لا يُشبِعُه ولا مِثلَه مِنْ حواشِيه ونُظرائِه، فسوَّلَ له أنْ يَتخذَ مدًّا يكونُ فيهِ شَبعُه، فجعَلَه رَطلينِ وحمَلَ الناسَ عليهِ، فإذا ابتَلَّ عادَ نحوَ الثلاثةِ الأرطالِ، فغيَّرَ السُّنةَ وأذهَبَ محَلَّ البَركةِ، قالَ النبيُّ حينَ دعا ربَّه لأهل المدينةِ بأنْ تَبقى لهمُ البركةُ في مُدِّهم وصاعِهم مثلَ ما باركَ لإبراهيمَ بمكَّةَ، فكانتِ البركةُ تَجري بدَعوةِ النبيِّ في مدِّه، فسعَى الشَّيطانُ في تَغييرِ هذهِ السُّنةِ وإذهابِ هذهِ البركةِ، فلم يَستجِبْ له في ذلكَ إلا هشامٌ، فكانَ مِنْ حقِّ العلماءِ أنْ يُلغُوا ذِكرَه ويَمحُوا رَسْمَه إذا لَم يُغيِّروا أمْرَه، وأما أنْ يُحيلُوا على ذِكرِه في الأحكامِ ويَجعلُوه تفسيرًا لِما ذكَرَ اللهُ ورسولُه بعدَ أنْ كانَ مُفسَّرًا عندَ الصَّحابةِ الذينَ نزَلَ عليهِم فخَطبٌ جَسيمٌ، ولذلكَ كانتْ رِوايةُ أشهَبَ في ذِكرِ مُدَّينِ بمدِّ النبيِّ في كفَّارةِ الظِّهارِ أحبَّ إلينا مِنْ الروايةِ بأنها بمُدِّ هِشامٍ، ألَا تَرى كيفَ نبَّه مالكٌ على هذا العلمِ بقَولِه لأشهَبَ: الشَّبعُ عندَنا بمدِّ النبيِّ ، والشَّبعُ عندَكُم أكثَرُ؛ لأنَّ النبيَّ دعَا لنا بالبركةِ، وبهذا أقولُ؛ فإنَّ العبادةَ إذا أُدِّيَتْ بالسُّنةِ فإنْ كانتْ بالبدَنِ كانتْ أسرَعَ إلى القَبولِ، وإنْ كانتْ بالمالِ كانَ قليلُها أثقَلَ في المِيزانِ، وأبرَكَ في يدِ الآخِذِ، وأطيبَ في شِدْقِه، وأقلَّ آفةً في بطْنِه، وأكثَرَ إقامةً لصُلبِه، واللهُ أعلَمُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>