للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حرٌّ» إلى الآثارِ المُستفيضَةِ عنِ ابنِ عبَّاسٍ في الحلِفِ بتَحريمٍ الزَّوجةِ أنها يَمينٌ يُكفِّرُها؛ تَبيَّنَ لكَ ما كانَ عليهِ ابنُ عبَّاسٍ وأصحابُه في هذا البابِ.

فإذا ضَمَمْتَ ذلكَ إلى آثارِ الصَّحابةِ في الحلِفِ بالتَّعليقاتِ كالحَجِّ والصَّومِ والصَّدقةِ والهدْيِ والمَشيِ إلى مكَّةَ حافِيًا ونَحوِ ذلكَ «أنها أيمانٌ مُكفَّرةٌ»؛ تَبيَّنَ لكَ حَقيقةُ ما كانَ عَليهِ الصَّحابةُ في ذلكَ، فإذا ضَمَمْتَ ذلكَ إلى القياسِ الصَّحيحِ الَّذي يَستَوي فيهِ حُكمُ الأصلِ والفَرعِ؛ تَبيَّنَ لكَ تَوافُقُ القياسِ وهذهِ الآثارِ.

فإذا ارتَفَعْتَ دَرجةً أُخرَى ووَزَنْتَ ذلكَ بالنُّصوصِ مِنَ القُرآنِ والسُّنةِ تَبيَّنَ لكَ الرَّاجِحُ مِنَ المَرجوحِ، ومعَ هذا كُلِّه فلا يُدانُ لكَ بمُقاوَمةِ السُّلطانِ، ومَن يَقولُ: «حَكمْت وثبَتَ عِنْدِي» فاللهُ المُستعانُ.

الطَّريقُ الرَّابعةُ: طَريقُ مَنْ يُفرِّقُ بيْنَ أنْ يَحلفَ على فِعلِ امرَأتِه أو على فِعلِ نَفسِه أو على غَيرِ الزَّوجةِ فيَقولُ: إنْ قالَ لامرَأتِه: «إنْ خَرجْتِ مِنَ الدَّارِ أو كلَّمْتِ رَجلًا أو فَعلْتِ كذا فأنتِ طالِقٌ» فلا يقَعُ عليهِ الطَّلاقُ بفِعلِها ذلكَ، وإنْ حلَفَ على فِعلِ نَفسِه أو غَيرِ امرَأتِه وحنَثَ لَزمَه الطَّلاقُ.

وهذا قَولُ أفقَهِ أصحابِ مالِكٍ على الإطلاقِ، وهوَ أشهَبُ بنُ عَبدِ العَزيزِ (١)، ومَحلُّهُ مِنَ الفِقهِ والعِلمِ غَيرُ خافٍ، ومأخَذُ هذا: أنَّ المَرأةَ إذا


(١) قالَ ابنُ أبي زيدٍ القَيرَوانِيُّ : تَنبيهاتٌ: الأوَّلُ: ظاهِرُ كَلامِ المُصنِّفِ وُقوعُ الفسخِ بمُجرَّدِ الارتدادِ ولو قصَدَ المُرتدُّ مِنهما بردَّتِه فسْخَ النِّكاحِ؛ وليسَ كذلكَ، بلْ يَجبُ تَقييدُه بما إذا لم يَقصدِ المُرتدُّ بِردَّتِه فسْخَ النِّكاحِ، وإلَّا عُومِلَ بنَقيضِ مَقصودِه ولا يُفسَخُ كما قالَهُ مالِكٌ ، وعليهِ: لوَ أسلَمَ المُرتدُّ الزَّوجيةُ باقيةٌ ولا يَحتاجُ الزَّوجُ إلى عَقدٍ ولا رَجعةٍ؛ لبَقاءِ العِصمةِ كامِلةً، ونَظيرُه لو قصَدَ المُرتدَّ بردَّتِه حِرمانَ وارثِه أنْ يَرثَه، ويُعامَلُ المُرتدُّ بنَقيضِ مَقصودِه في الإرثِ، وإنْ كانَ المُرتدُّ يُستتابُ ثلاثةَ أيَّامٍ، فإنْ لَم يَتُبْ قُتِلَ، هذا ما ظهَرَ لنا وحَرَّرَه.
ونَظيرُ ما قالَهُ مالكٌ أيضًا: لو قالَ لِزَوجتِه: «إنْ فَعلْتِ كذا فأنتِ طالِقٌ» ففَعلَتْه قاصِدةً تَحنيثَه فإنه لا يَحنَثُ؛ مُعامَلةً لها بنَقيضِ قَصدِها، واختارَ هذا أشهَبُ وخالَفَه ابنُ القاسِمِ وقالَ بالحِنثِ، ومَشى عليهِ العلَّامةُ خَليلٌ؛ لأنهُ قولُ «المُدوَّنة»، ولَم تَزلْ أشياخُنا وأشياخُهم تُرجِّحُه وتُضعِّفُ كلامَ أشهَبَ المُوافقِ لكَلامِ مالكٍ في عَدمِ فَسخِ نكاحِ المرأةِ القاصِدةِ بردَّتِها فسْخَ نكاحِها، وفرَّقَ الشُّيوخُ بيْنَ مَسألةِ الردَّةِ ومَسألةِ الطَّلاقِ بأنَّ مسألةَ تَعليقِ الطَّلاقِ على فِعلِ الزَّوجةِ أمرٌ وقَعَ مِنْ الزَّوجِ باختيارِه، فلذلكَ قُلنا يَحنثُ بفِعلِها ولو قَصدَتْ تَحنيثَه؛ لأنهُ المُعلِّقُ للطَّلاقِ، فكأنهُ المُوقِعُ له؛ لأنهُ حينَ التَّعليقِ مُجوِّزٌ فِعلَها للمُعلَّقِ عليهِ، بخِلافِ ردَّتِها وَقعَتْ مِنها باختيارِها قاصِدةً طلاقَها، والعِصمةُ ليسَتْ بيَدِها، فلَم يقَعْ على الرَّجلِ، ولو وقَعَ لَتَواطأَتِ النِّساءِ على فِراقِ الأزواجِ قَهرًا عليهم، فافْهَمْ هذا الفرْقَ بإيضاحٍ. «الفَواكِهُ الدَّواني» (٢/ ٢٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>