وقدْ ذكَرَ أصحابُ الشَّافعيِّ وأحمدَ فيما إذا كاتَبَ عبْدَه على عِوضٍ فأدَّاهِ إليهِ فقالَ: «أنتَ حُرٌّ» ثمَّ تبيَّنَ أنَّ العوضَ مُستحَقٌّ؛ لم يُعتَقْ، معَ تَصريحِه بالحُريَّةِ، فالطَّلاقُ أَولَى بعَدمِ الوُقوعِ في هذهِ الصُّورةِ.لصُّورةُ الثَّانيةُ: أنْ يكونَ قد غَضبَ عليها لأمرٍ قد عَلِمَ وُقوعَه مِنها، فتكلَّمَ بكلمةِ الطَّلاقِ قاصِدًا للطَّلاقِ عالِمًا بما يَقولُ عُقوبةً لها على ذلكَ، فهذا يَقعُ طَلاقُه؛ إذْ لو لم يَقعْ هذا الطَّلاقُ لَم يَقعْ أكثرُ الطَّلاقِ، فإنه غالبًا لا يقعُ معَ الرِّضَا.الصَّورةُ الثَّالثةُ: أنْ لا يَقصِدَ أمرًا بعَينِه، ولكنَّ الغضَبَ حمَلَه على ذلكَ وغيَّرَ عقْلَه ومنَعَه كمالَ التَّصوُّرِ والقَصدِ، فكانَ بمَنزلةِ الَّذي فيهِ نَوعٌ مِنَ السُّكرِ والجُنونِ، فليسَ هو غائِبَ العَقلِ بحَيثُ لا يَفهمُ ما يقولُ بالكُليَّةِ، ولا هو حاضِرُ العَقلِ بحَيثُ يكونُ قَصدُه مُعتبَرًا، فهذا لا يَقعُ به الطَّلاقُ أيضًا، كما لا يَقعُ بالمُبرسَمِ والمَجنونِ.يُوضِّحُه الوجهُ الرابعَ عشَرَ: أنَّ المَجنونَ والمُبرسَمَ والمُوسوِسَ والهاجِرَ قد يَشعُرُ أحدُهم بما قالَهُ ويَستحِي منهُ، وكذلكَ السَّكرانُ، ولهذا لم يَشتَرطْ أكثُر الفُقهاءِ في كَونِه سَكرانَ أنَّ يُعدَمَ تَمييزُه بالكُليَّةِ، بل قَدْ قالَ الإمامُ أحمدُ وغَيرُه: إنَّه الَّذي يَخلطُ في كَلامِه ولا يَعرِفُ رِداءَه مِنْ رِداءِ غَيرِه وفِعلَه مِنْ فِعلِ غَيرِه، والسُّنةُ الصَّريحةُ الصَّحيحةُ تَدلُّ عليهِ، فإنَّ النَّبيَّ ﷺ أمَرَ أنْ يُستَنكَه مَنْ أقَرَّ بالزِّنا، معَ أنَّه حاضِرُ العقلِ والذِّهنِ، يَتكلَّمُ بكَلامٍ مَفهومٍ ومَنتظِمٍ، صحيحُ الحرَكةِ، ومعَ هذا فجوَّزَ النَّبيُّ ﷺ أنْ يكونَ به سُكرٌ يَحُولُ بيْنَه وبيْنَ كمالِ عَقلِه وعِلمِه، فأمَرَ باستِنكاهِه.والمَقصودُ أنَّ هؤلاءِ لَيسُوا مَسلُوبي التَّمييزِ بالكُليةِ، وليسُوا كالعُقلاءِ الَّذينَ لهُم قَصدٌ صَحيحٌ، فإنَّ ما عرَضَ لهم أوجَبَ تَغيُّرَ العَقلِ الَّذي منَعَ صحَّةَ القصدِ، فلَم يبْقَ أحدُهم يَقصِدُ قصدَ العُقلاءِ الَّذي مُرادُه جَلبُ ما يَنفعُ ودفْعُ ما يَضرُّ، فلم يَتصوَّرْ أحدُهم لَوازِمَ ما تَكلَّمَ بهِ، ولا غابَ عَقلُه عَنِ الشُّعورِ بهِ، بل هوَ ناقِصُ التَّصوُّرِ ضَعيفُ القَصدِ. =
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://www.shamela.app/page/contribute