قلتُ: المُلوكُ فُقراءُ مَدينُونَ بسَببِ ما جَنَوهُ على المُسلِمينَ مِنْ تَصرُّفاتِهم في أموالِ بَيتِ المالِ بالهَواءِ في أبنِيةِ الدُّورِ العالِيةِ المُزخرَفةِ والمَراكِبِ النَّفيسَةِ والأطعِمةِ الطَّيبةِ وإعطاءِ الأصدِقاءِ والمُزاحِ بالباطِلِ مِنْ أموالٍ وغيرِ ذلكَ مِنْ التَّصرُّفاتِ المَنهيِّ عنها شَرعًا، فهذه كلُّها دُيونٌ عليهم فتَكثُرُ مِنْ تَطاوُلِ الأيَّامِ، فيَتعذَّرُ بسَببِها أمرانِ:
أحَدُهما: الأوقافُ والتَّبرعاتُ والبُيوعاتُ على مَذهبِ مالِكٍ ﵀ ومَن وافَقَه، فإنَّ تَبَرُّعاتِ المَديونِ المُتأخِّرَةَ عن تَقرُّرِ الدَّينِ باطِلةٌ، فيَتخرَّجُ ذلكَ على هذا الخِلافِ.
وثانيهِما: الإِرْثُ؛ لانه لا مِيراثَ مع الدَّينِ إجماعًا فلا يُورَثُ عنهم شيءٌ، وما تَرَكوهُ مِنْ المَماليكِ لا يَنفذُ عِتقُ الوارِثِ فيهم، بل هُمْ أموالُ بَيتِ المالِ مُستَحقُّونَ بسببِ ما عليهم مِنْ الدَّينِ، فلا يَنفذُ فيهم إلَّا عِتقُ مُتَولِّي بَيتِ المالِ على الوَجهِ الشَّرعيِّ، وإعتاقُهم لغَيرِ مَصلحةِ المُسلمينَ لا يَجوزُ، فإنْ وَقَفوا وَقفًا على جِهاتِ البِرِّ والمَصالِحِ العامَّةِ ونَسَبوهُ لأنفُسِهم بِناءً على أنَّ المالَ الذي في بَيتِ المالِ لهم كما يَعتقِدُه جَهَلةُ المُلوكِ بطَلَ الوَقفُ، بل لا يَصحُّ إلا أنْ يُوقِفُوا مُعتقِدينَ أنَّ المالَ للمُسلمينَ والوَقفَ للمُسلمينَ، أمَّا إنَّ المالَ لهم والوَقفَ لهم فلا، كمَن وقَفَ مالَ غَيرِه على أنه له فلا يَصحُّ الوَقفُ، فكذلكَ هاهُنا (١).