لأنَّ وُقوفَ السَّلفِ كلَّها وُقوفُ بَتاتٍ في أصلِها، وشُروطَهم فيها أنْ لا تُباعَ ولا تُوهَبَ ولا تُورثَ، وإنَّما يُريدونَ بذلكَ أنْ لا رَجعةَ لهم فيها، فكلُّ ما كانَ مِنْ الوَقفِ على وُقوفِهم لا مَثنَوِيَّةَ -أي: استِثناءَ- فيه فهو جائِزٌ، وما كانَ فيهِ الرَّجعةُ فلا يَجوزُ؛ لأنه خِلافُ وُقوفِهم.
قالَ أبو حَنيفةَ ومُحمدٌ: لا يَتمُّ الوَقفُ حتى يَجعلَ آخِرَه لجِهةٍ لا تَنقطِعُ أبدًا كالمَساكينِ ومَصالحِ الحَرمِ والمَساجدِ، بخِلافِ ما لو وقَفَ على مَسجدٍ مُعَيَّنٍ ولم يَجعلْ آخِرَه لجِهةٍ لا تَنقطِعُ لا يَصحُّ؛ لاحتِمالِ أنْ يَخربَ المَوقوفُ عليه؛ لأنَّ مَقصودَ الوَقفِ التَّأبيدُ كالعِتقِ، وهذا كقَولِه:«جَعلْتُ أَرضي هذهِ صَدقةً مَوقوفةً على أولادِ فُلانٍ ما تَناسَلُوا فإذا انقَرضُوا كانَتْ غلَّتُها للمَساكينِ»؛ لأنَّ أثَرَ المَساكينِ لا يَنقطعُ أبَدًا، وإذا لم يَقُلْ ذلكَ لم يَصحَّ؛ لأنَّ شرْطَ جَوازِه عندَهُما أنْ يَكونَ مُؤبَّدًا، فإذا عيَّنَ جِهةً تَنقطِعُ صارَ مُؤقَّتًا مَعنًى، فلا يَجوزُ؛ لأنَّ حُكمَ الوَقفِ زَوالُ المِلكِ بغَيرِ التَّمليكِ وأنه بالتَّأبيدِ كالعِتقِ، ولهذا كانَ التَّوقيتُ مُبطِلًا له كالتَّوقيتِ في البَيعِ.
وقالَ أبو يُوسفَ: إذا سَمَّى جِهةً تَنقطِعُ جازَ وصارَ بعدَها للفُقراءِ، وإنْ لم يُسمِّهِمْ صارَ وَقفًا مُؤبَّدًا وإنْ لم يَذكُرِ التَّأبيدَ؛ لأنَّ لفْظَ الوَقفِ والصَّدقةِ مَبنِئٌ عنه، فيُصرَفُ إلى الجِهةِ التي سَمَّاها مُدَّةَ دَوامِها، ويُصرفُ بعدَها للفُقراءِ وإنْ لم يُسمِّهمْ، وذلكَ مِثلَ أنْ يَقولَ:«جَعلْتُها صَدقةً مَوقوفةً للهِ تعالى أبَدًا على ولَدِ فُلانٍ وولَدِ ولَدِه» ولمْ يَذكُرِ الفُقراءَ ولا المَساكينَ؛ وذلكَ لأنهُ إذا جعَلَها للهِ فقدْ أبَّدَها؛ لأنَّ ما يَكونُ للهِ فهو يَنصرِفُ إلى