للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مالِكٍ أنَّ أبا طَيبَةَ حَجَمَ رَسولَ اللَّهِ فأمَرَ له بصاعٍ مِنْ تَمرٍ، وأمَرَ مَوالِيَه أنْ يُخفِّفوا عنه مِنْ خَراجِه، قالَ جابِرٌ: وكانَ خَراجُه ثَلاثةَ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ في كلِّ يَومٍ، فخفّفوا عنه في كلِّ يَومٍ صاعًا.

وَوَجْهُ الدَّليلِ مِنه: أنَّه لَو حَرُمَ كَسْبُه على أخْذِه حَرُمَ دَفْعُه على مُعطيه، فلَمَّا استَجازَ النَّبيُّ أنْ يَأمُرَ بدَفعِه إلَيه، دَلَّ على جَوازِ أخْذِه، فإنْ قيلَ: إنَّما حَجَمَه أبو طَيبَةَ مُتطوِّعًا تَقرُّبًا إلى اللَّهِ بخِدمةِ رَسولِ اللهِ ، ولِذلك شَرِبَ دَمَه، فقالَ له : «قَدْ حرَّمَ اللَّهُ جِسمَكَ على النارِ»، وكانَ ما أعطاهُ النَّبيُّ مُواساةً، ولَم يكُنْ أجْرَهُ، فعَنه جَوابانِ:

أحَدُهما: إنَّما أعطاه مُقابَلةً على عَملِه، صارَ عِوَضًا يَنصَرِفُ عن حُكمِ المُواساةِ.

والآخَرُ: أنَّ أبا طَيبَةَ كانَ مَملوكًا لا يَصحُّ تَطوُّعه بعَملِه، ولا يَستَحلُّ رَسولُ اللَّهِ تَطوُّعَه؛ ولأنَّه لَم يَزَلِ النَّاسُ على هذا في عَصرِ رَسولِ اللَّهِ وخُلَفائِه إلى وَقتِنا هذا في سائِرِ الأمصارِ، يَتكسَّبونَ بهَذا، فلا يُنكِرُه مُستَحسِنٌ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى، فدَلَّ على انعِقادِ الإجماعِ به، وارتِفاعِ الخِلافِ فيه، ولأنَّ الحاجةَ إليه دَاعيةٌ، والضَّرورةَ إليه ماسَّةٌ؛ لأنَّه لا يَقدِرُ الإنسانُ على حِجامةِ نَفْسِه إذا احتاجَ، وما كانَ بهذه المَنزِلةِ لَم يَمنَعْ منه الشَّرعُ؛ لِمَا فيه مِنْ إدخالِ الضَّررِ على الخَلقِ، وقَد قالَ رَسولُ اللَّهِ : «لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ»؛ ولأنَّ كلَّ كَسْبٍ حَلَّ لِلعَبيدِ حَلَّ لِلأحرارِ، كَسائِرِ الأكسابِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>