وأجازَ الحَنفيَّةُ أخْذَ الجُعلِ عليه؛ لأنَّ التَّجاعُلَ ليس باستِئجارٍ، بل إعانةٌ على السَّيرِ، وهو مَندوبٌ إليه، وجِهادٌ بالمالِ والنَّفْسِ جَميعًا، قال اللهُ تعالى: ﴿وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾ [الصف: ١١]، وقالَ -جل وعلا-: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ﴾ [التوبة: ١١١]، وَأحوالُ النَّاسِ مُتفاوِتةٌ، فمِنهم مَنْ يَقدِرُ على إقامةِ الفَرضِ بهِما، ومِنهم مَنْ يَقدِرُ على إقامةِ الجِهادِ بالنَّفْسِ؛ لِصِحَّةِ بَدَنِه، ويَعجِزُ عن الخُروجِ؛ لِفَقرِه، وآخَرُ يَعجِزُ عن الخُروجِ والجِهادِ بالنَّفْسِ؛ لِمَرَضٍ أو آفةٍ، ويَقدِرُ على الجِهادِ بالمالِ، فيُجَهِّزُ بمالِه مَنْ يَخرُجُ فيُجاهِدُ بنَفْسِه، حتى يَكونَ الخارِجُ مُجاهِدًا بالنَّفْسِ، ويَكونَ القاعِدُ المُعطِي المالَ مُجاهِدًا بالمالِ، والمُؤمِنونَ كالبُنيانِ، يَشُدُّ بَعضُهم بَعضًا، ولِهَذا كَرِهَ ابنُ عَبَّاسٍ ﵁ لِقابِضِ المالِ أنْ يَجعَلَ ذلك في مَتاعِ بَيتِه؛ لأنَّ المُعطِيَ أمَرَه بالجِهادِ به، وذلك في استِعدادِه لَه، والإنفاقِ في الطَّريقِ على نَفْسِه، وهو على وجهيْنِ:
إنْ قالَ: هذا المالُ لَكَ؛ فاغْزُ به، فلَه أنْ يَصرِفَه إلى ما يَشاءُ؛ لأنَّه ملكَه المالَ، ثم أشارَ عليه بأنْ يَصرِفَه إلى الجِهادِ، فإنْ شاءَ قبلَ مَشورَتَه، وإنْ شاءَ لَم يَقبَلْ.
وإنْ قالَ: اغْزُ بهذا المالِ، فليسَ له أنْ يَصرِفَه إلى مَتاعِ بَيتِه، بل يَشتَري به الكُراعَ والسِّلاحَ، ويُنفِقُ على نَفْسِه في طَريقِ الجِهادِ.
وَلِلمَدفوعِ إليه أنْ يَترُكَ بَعضَ الجَعلِ لِنَفَقةِ عِيالِه على كلِّ حالٍ؛ لأنَّه لا يَتهيَّأُ له الخُروجُ إلَّا بهَذا؛ فكانَ مِنْ أعمالِ الجِهادِ مَعنًى.