للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المُدَّعِي إذا أقامَ البَيِّنةَ تَكثُرُ العَداوةُ وتَهيجُ الفِتَنُ بينَ المُدَّعِي والمُدَّعَى عليه والشُّهودِ والقاضي.

وقيلَ: لا يَعمَلُ الشَّيطانُ في إيقاعِ العَداوةِ والبَغضاءِ في بَني آدَمَ مِثلَما يَعمَلُ مِنْ إبطالِ الصُّلحِ على الإنكارِ، وهذا صَحيحٌ؛ لأنَّ في مَنعِ هذا الصُّلحِ فَتحَ بابِ المُنازَعاتِ وبابِ إثارةِ النائِراتِ بينَ الناسِ، وبابِ إقامةِ الفِتَنِ والمُكايَداتِ، وقد حُكيَ أنْ فِتنةً وَقَعتْ في قَبيلةٍ بسَبَبِ تُهمةِ غُلامٍ، فهاجَتْ بَينَهم حتى قُتِلَ منهم أربَعونَ ألْفًا، فامتَدَّتِ الحَربُ بَينَهم إلى أنْ وَقَع الصُّلحُ، فانطَفأتِ النائِرةُ، ولأنَّ العُقودَ إنَّما شُرِعتْ لِلحاجةِ، ولأنَّ الحاجةَ إليه أمَسُّ لِدَفعِ الشَّرِّ، فكانَ أوْلَى به.

ولِمَا رُوِيَ مَرفوعًا: «كُلُّ مَا وَقَى بِهِ الرَّجُلُ عِرْضَهُ فَهُوَ لهُ صَدَقَةٌ» (١) والصَّدَقةُ تُستَحَبُّ لِباذِلِها وتَحِلُّ لِآخِذِها، فهكذا الصُّلحُ.

ولأنَّه بَذَلَ مالًا في الصُّلحِ مُختارًا، فصَحَّ كالمُقَرِّ به، ولأنَّه مُدَّعٍ لَم يُعلَمْ كَذِبُه صَحَّ صُلحُه كالمُقَرِّ له، ولأنَّ اختِلافَ الأسماءِ يُوجِبُ اختِلافَ المَعاني، فلَمَّا اختُصَّ الصُّلحُ باسمٍ غيرِ البَيعِ وجَب أنْ يَكونَ مُخالِفًا لِحُكمِ البَيعِ، ولو كان لا يَجوزُ إلا بعدَ الإقرارِ لَكانَ بَيعًا مَحضًا، ولَم يَكُنْ لاختِصاصِه باسمِ الصُّلحِ مَعنًى، ولأنَّ الاعتِبارَ في الأُصولِ بالآخِذِ دونَ الباذِلِ، ألَا تَرى أنَّ شاهِدًا لو شَهِدَ على رَجُلٍ بعِتقِ عَبدِه فرُدَّتْ شَهادَتُه ثم


(١) حَدِيثٌ ضَعِيفٌ: رواه البيهقي في «شعب الإيمان» (٣٤٩٥)، وفي «الكبرى» (٢١٦٦٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>