وسَببُ اختِلافِهم تَعارُضُ الآثارِ الوارِدةِ في ذلك، وذلك أنَّه ورَد في ذلك حَديثان، أحَدُهما ما رُوي من طَريقِ ثَوبانَ ومِن طَريقِ رافِعِ بنِ خَديجٍ أنَّه ﵊ قال:«أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ».
وحَديثُ ثَوبانَ هذا كان يُصحِّحُه أحمدُ.
والحَديثُ الثاني حَديثُ عِكرِمةَ عن ابنِ عَباسٍ أنَّ رَسولَ اللهِ ﷺ:«احْتَجَمَ وهو صَائِمٌ».
وحَديثُ ابنِ عَباسٍ هذا صَحيحٌ، فذهَب العُلماءُ في هذَيْن الحَديثَيْن ثَلاثةَ مَذاهبَ:
أحَدُها: مَذهَبُ التَّرجيحِ.
والثاني: مَذهَبُ الجَمعِ.
والثالِثُ: مَذهَبُ الإسقاطِ عندَ التَّعارُضِ والرُّجوعِ إلى البَراءةِ الأصليَّةِ إذا لم يَعلَمِ الناسِخَ من المَنسوخِ.
فمَن ذهَب مَذهبَ التَّرجيحِ قال بحَديثِ ثَوبانَ، وذلك أنَّ هذا مُوجِبٌ حُكمًا، وحَديثُ ابنِ عَباسٍ رافِعُه، والمُوجِبُ مُرجَّحٌ عندَ كَثيرٍ من العُلماءِ على الرافِعِ؛ لأنَّ الحُكمَ إذا ثبَت بطَريقٍ يُوجِبُ العَملَ لم يَرتفِعْ إلا بطَريقٍ يُوجِبُ العَملَ برَفعِه، وحَديثُ ثَوبانَ قد وجَب العَملُ به، وحَديثُ ابنِ عَباسٍ يَحتمِلُ أنْ يَكونَ ناسِخًا ويَحتمِلُ أنْ يَكونَ مَنسوخًا، وذلك شَكٌّ والشَّكُّ لا يُوجِبُ عَملًا ولا يَرفَعُ العِلمَ المُوجِبَ لِلعَملِ، وهذا على طَريقةِ مَنْ لا يَرى الشَّكَّ مُؤثِّرًا في العِلمِ.