أَوصَى بثُلثِ مالِه كانَت سِهامُ الوَرثةِ مُعتبَرةً بعدَ الثُّلثِ، فيَكونُ للزَّوجةِ الرُّبعُ أو الثُّمنُ في الثُّلثَينِ؟ وكذلك سِهامُ سائِرِ أهلِ المِيراثِ جاريةٌ في الثُّلثَينِ دونَ الثُّلثِ الذي فيه الوَصيةُ؟ فجمَعَ تَعالى بينَ ذِكرِ الدَّينِ والوَصيةِ ليُعلِمَنا بأنَّ سِهامَ المِيراثِ مُعتبَرةٌ بعدَ الوَصيةِ كما هي مُعتبَرةٌ بعدَ الدَّينِ وإنْ كانَت الوَصيةُ مُخالفةً للدَّينِ من جِهةِ الاستِيفاءِ؛ لأنَّه لو هلَكَ من المالِ شَيءٌ لدخَلَ النُّقصانُ على أَصحابِ الوَصايا كما يَدخلُ على الوَرثةِ، وليسَ كذلك الدَّينُ؛ لأنَّه لو هلَكَ من المالِ شَيءٌ استُوفِيَ الدَّينُ كلُّه من الباقي، وإنِ استَغرَقه وبطَلَ حَقُّ المُوصَى له والوَرثةِ جَميعًا فالمُوصَى له شَريكُ الوَرثةِ من وَجهٍ، ويأخُذُ شَبهًا من الغَريمِ من وَجهٍ آخَرَ، وهو أنَّ سِهامَ أهلِ المَواريثِ مُعتبَرةٌ بعدَ الوَصيةِ كاعتِبارِها بعدَ الدَّينِ، وليسَ المُرادُ بقَولِه تَعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ [النساء: ١١] أنَّ المُوصَى له يُعطَى وَصيتَه قبلَ أنْ يأخُذَ الوَرثةُ أنصِباءَهم، بل يُعطَوْن كلُّهم معًا، كأنَّه أحدُ الوَرثةِ في هذا الوِجهِ، وما هلَكَ من المالِ قبلَ القِسمةِ ذاهِبٌ منهم جَميعًا (١).
وقالَ الإِمامُ ابنُ العَربيِّ ﵀: فإنْ قيل: فما الحِكمةُ في تَقديمِ ذِكرِ الوَصيةِ على ذِكرِ الدَّينِ، والدَّينُ مُقدَّمٌ عليها؟ قُلنا: في ذلك خَمسةُ أوجُهٍ:
الأولُ: أنَّ «أو» لا تُوجِبُ ترَتيبًا، إنَّما تُوجبُ تَفصيلًا، فكأنَّه قالَ:«مِنْ بعدِ أَحدِهما أو مِنْ بَعدِهما» ولو ذكَرَهما بحَرفِ الواوِ لأوهَمَ الجَمعَ والتَّشريكَ، فكانَ ذِكرُهما بحَرفِ «أو» المُتَقضي التَّفصيلَ أوْلى.