ولأنَّ الشَّهادةَ لا تَجوزُ بأَقلَّ مِنْ اثنينِ، فلو جازَ للقاضِي أنْ يَحكمَ بعِلمِه لصارَ إِثباتُ الحَقِّ بشَهادةِ واحدٍ.
ولو صارَ القاضِي كالشاهدينِ لصحَّ عَقدُ النِّكاحِ بحُضورِه وَحدَه لقيامِه مَقامَ شاهدينِ، وفي امتناعِ هذا دَليلٌ على مَنعِه من الحُكمِ بعِلمِه.
ولأنَّ تَجويزَ القَضاءِ بعِلمِ القاضِي يُفضي إلى تُهمتِه وحُكمِه بما يَشتهي (١).
وذهَبَ الحَنفيةُ والشافِعيةُ في الأَصحِّ والحَنابِلةُ في رِوايةٍ إلى أنَّه يَجوزُ أنْ يَقضيَ بعِلمِه في الحُقوقِ، فإذا علِمَ بشَيءٍ مِنْ حُقوقِ العِبادِ في زَمنِ وِلايتِه ومَحلِّها جازَ له أنْ يَقضيَ به؛ لأنَّ عِلمَه كشَهادةِ الشاهدينِ وبل أَولى؛ لأنَّ اليَقينَ حاصلٌ بما علِمَه بالمُعاينةِ والسَّماعِ، والحاصلُ بالشَّهادةِ غَلبةُ الظنِّ، والإِجماعُ على أنَّ قَولَه على الانفرادِ مَقبولٌ فيما ليسَ خَصمًا فيه، ومتى قالَ حكَمْتُ بكذا نفَذَ حُكمُه.
ولقَولِه تَعالى: ﴿يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ [ص: ٢٦]، وقَولِه تَعالى: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾ [المائدة: ٤٢]، والحقُّ هو ضدُّ الباطلِ، ولمْ يُفرقْ بينَ أنْ يَحكمَ القاضِي بالبَينةِ أو بعِلمِه.
(١) «الإشراف على نكت مسائل الخلاف» (٥/ ٣٥، ٣٧)، و «التمهيد» (٢٢/ ٢١٦، ٢١٩)، و «الاستذكار» (٧/ ٩٣، ٩٤)، و «بداية المجتهد» (٢/ ٣٥١، ٣٥٢)، و «البيان والتحصيل» (١٦/ ٣١٣)، و «الحاوي الكبير» (١٦/ ٣٢٢، ٣٢٣)، و «البيان» (١٣/ ١٠٢، ١٠٤)، و «المغني» (١٠/ ١٠١، ١٠٢)، و «شرح الزركشي» (٣/ ٣٧١، ٣٧٢)، و «الطرق الحكمية» (٢٨٥، ٢٨٨).
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://www.shamela.app/page/contribute