وقد حَكى ابنُ حَزمٍ في «مَراتِبِ الإجماعِ» له أنَّ مَنْ كانَ في الذِّمةِ وجاءَ أهلُ الحَربِ إلى بِلادِنا يَقصِدونَه وجَبَ علينا أنْ نَخرُجَ لقتالِهم بالكُراعِ والسِّلاحِ ونَموتَ دونَ ذلك؛ صَونًا لمَن هو في ذِمةِ اللهِ تَعالى وذِمةِ رَسولِه ﷺ؛ فإنَّ تَسليمَه دونَ ذلك إهمالٌ لعَقدِ الذِّمةِ (١).
ويَشهَدُ التاريخُ بكَثيرٍ من المَواقِفِ التي تَدلُّ على التِزامِ المُسلِمينَ بذلك، ومِن صُورِه الجَديرةِ بالتَّسجيلِ ما ذكَرَه أبو يُوسفَ ﵀ عن أبي عُبيدةَ بنِ الجَرَّاحِ ﵁ أنَّه صالَحَ أهلَ الشامِ على دَفعِ الجِزيةِ وأنْ يَردَّ المُسلِمونَ على أهلِ الذِّمةِ ما أخَذوه إذا لم يَستَطيعوا الدِّفاعَ عنهم، فلمَّا رأى أهلُ الذِّمةِ وَفاءَ المُسلِمينَ لهم وحُسنَ السِّيرةِ فيهم، صاروا أشِداءَ على عَدوِّ المُسلِمينَ وعَونًا للمُسلِمينَ على أعدائِهم؛ فبعَثَ أهلُ كلِّ مَدينةٍ ممَّن جرَى الصُّلحُ بينَهم وبينَ المُسلِمينَ رِجالًا من قِبَلِهم يَتجَسَّسون الأَخبارَ عن الرُّومِ وعن مَلكِهم وما يُريدونَ أنْ يَصنَعوا؛ فأتى أهلَ كلِّ مَدينةٍ رُسلُهم يُخبِرونَهم بأنَّ الرُّومَ قد جمَعوا جَمعًا لمْ يُرَ مِثلُه.
فأتى رُؤساءُ أهلِ كلِّ مَدينةٍ إلى الأميرِ الذي خَلَّفه أبو عُبيدةَ عليهم فأخبَروه بذلك، فكتَبَ والي كلِّ مَدينةٍ ممَّن خلَّفَه أبو عُبيدةَ إلى أبي عُبيدةَ يُخبِرُه بذلك، وتتابَعت الأخبارُ على أبي عُبيدةَ.
(١) انظر: «الفروق» للقرافي (٣/ ٣٠)، و «المبسوط» (٢٦/ ٨٥)، و «تبيين الحقائق» (٣/ ٢٤٣)، و «العناية» (١٥/ ٢٦٠)، و «ابن عابدين» (٦/ ٥٣٤)، و «الكافي» (٤/ ٣٦٤)، و «شرح الزركشي» (٣/ ٢٠٠).