للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد أورَد بعضُ الطَّاعِنينَ في الدِّينِ سُؤالًا في الجِزيةِ، فقالَ: شَأنُ الشَّرائِعِ دَفعُ أعظَمِ المَفسدتَينِ بإيقاعِ أدناهما وتَفويتِ المَصلَحةِ الدُّنيا بدَفعِ المَفسدةِ العُليا، فمَفسَدةُ الكُفرِ تَربو على مَصلَحةِ المأخوذِ من الجِزيةِ من أموالِ الكُفارِ، بل على جُملةِ الدُّنيا وما فيها، فَضلًا على هذا النَّزرِ اليسَيرِ، فلمَ ورَدَت الشَّريعةُ المُحمَّديةُ بذلك؟ ولمَ حتَّمَ القَتلَ دَرءًا لمَفسَدةِ الكُفرِ؟

وجَوابُ هذا السُّؤالِ هو سِرُّ الفَرقِ بينَ القاعِدتَينِ، وذلك أنَّ قاعِدةَ الجِزيةِ من بابِ التِزامِ المَفسَدةِ الدُّنيا لدَفعِ المَفسدةِ العُليا وتَوقُّعِ المَصلَحةِ العُليا، وذلك هو شأنُ القَواعِدِ الشَّرعيةِ؛ بَيانُه أنَّ الكافِرَ إذا قُتلَ انسَدَّ عليه بابُ الإيمانِ وبابُ مَقامِ سَعادةِ الجِنانِ، وتَحتَّمَ عليه الكُفرُ والخُلودُ في النِّيرانِ وغَضبُ الدَّيانِ؛ فشرَعَ اللهُ تَعالى الجِزيةَ رَجاءَ أنْ يُسلِمَ في مُستقبَلِ الأزمانِ، لا سيَّما مع اطِّلاعِه على مَحاسنِ الإسلامِ والإلجاءِ إليه بالذُّلِّ والصَّغارِ في أخذِ الجِزيةِ.

فإذا أسلَمَ لزِمَ من إسلامِه إسلامُ ذُرِّيتِه، فاتَّصلَت سِلسِلةُ الإسلامِ مِنْ قِبَلِه بَدلًا عن ذلك الكُفرِ، وإنْ ماتَ على كُفرِه ولم يُسلِمْ فنحن نتوَقَّعُ إسلامَ ذُرِّيتِه المُخلَّفينَ من بَعدِه، وكذلك يَحصُلُ التَّوقُّعُ من ذُرِّيةِ ذُرِّيتِه إلى يَومِ القِيامةِ، فساعةٌ من إيمانٍ تَعدِلُ دَهرًا من كُفرٍ، وكذلك خلَقَ اللهُ تَعالى آدَم على وَفقِ الحِكمةِ وأكثَرُ ذُرِّيتِه كُفارٌ، وعَدَ النَّبيُّ خَلقَه من جُملةِ البَركاتِ المُوجِبةِ لتَعظيمِ يَومِ الجُمُعةِ فقالَ في تَعظيمِه لمَّا ساق تَعظيمَه والثَّناءَ عليه في الحَديثِ الصَّحيحِ: «أفضَلُ يَومٍ طَلَعتْ عليه الشَّمسُ

<<  <  ج: ص:  >  >>