للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإنْ أعطَاهم الإمامُ على هذا عَهدًا فإنَّه لا يَنبَغي له أنْ يَفيَ بهذا الشَّرطِ؛ لأنَّه مُخالِفٌ لحُكمِ الشَّرعِ، فقالَ رَسولُ اللهِ : «كلُّ شَرطٍ ليسَ في كِتابِ اللهِ تَعالى فهو باطِلٌ»، والأصلُ فيه ما رُوي أنَّ رَسولَ اللهِ صالَحَ أهلَ مَكةَ يَومَ الحُدَيبيةِ على أنْ يَرُدَّ عليهم مَنْ جاءَ منهم مُسلمًا، ثم نسَخَ اللهُ تَعالى هذا الشَّرطَ بقَولِه: ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ﴾ [الممتحنة: ١٠]، فصارَ هذا أصلًا أنَّ الصُّلحَ متى وقَعَ على شُروطٍ منها الجائِزُ الذي يُمكِنُ الوَفاءُ به، ومنها الفاسِدُ الذي لا يُمكِنُ الوَفاءُ به؛ فإنَّ الإمامَ يَنْظُرُ إلى الجائِزِ فيُجيزُه وإلى الفاسِدِ فيُبطِلُه.

فإنْ قيلَ: أليسَ رَسولُ اللهِ قد شرَط لأهلِ مَكةَ يَومَ الحُدَيبيةِ أنْ يَرُدَّ عليهم مَنْ جاءَ منهم مُسلمًا ووَفَّى بذلك الشَّرطِ؛ فإنَّه ردَّ أبا جَندَلِ بنَ سُهَيلِ بنِ عَمرٍو على أبيه سُهَيلِ بنِ عَمرٍو ورَدَّ أبا نُصَيرٍ على مَنْ جاءَ في طلَبِه حتى فعَلَ ما فعَل.

قُلنا: نَعمْ، ولكنَّ هذا حُكمٌ قد نُسخَ بالكِتابِ، قالَ اللهُ تَعالى: ﴿فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ﴾ [الممتحنة: ١٠]. وكانَ ذلك لرَسولِ اللهِ يَومَئذٍ خاصةً وقد علِمَ وَجهُ المَصلَحةِ فيه بطَريقِ الوَحيِ، فقالَ: «لا يَسألونَني اليَومَ شَيئًا إلا أعطَيتُهم إيَّاه»، فأمَّا اليَومَ فلا يَنبَغي أنْ نَردَّ على المُشرِكينَ مُسلمًا أو أنْ نتْرُكَ أخْذَ المُسلِمِ من أيديهم إذا قدِرَ المُسلِمونَ على ذلك بحالٍ؛ فإنْ أرادوا أخْذَهم فعَرَض لهم المُشرِكونَ في ذلك فليَنبِذوا إليهم، ثم ليُقاتِلوهم أشَدَّ القِتالِ دونَ أُسراءِ المُسلِمينَ حتى يَستَنقِذوهم (١).


(١) «شرح كتاب السير الكبير» (٤/ ١٥٤٨، ١٥٩٥)، و «شرح فتح القدير» (٥/ ٤٦٠)، و «حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير» (٢/ ٥٢٨)، و «التاج والإكليل» (٢/ ٤٦٠)، و «تحبير المختصر» (٢/ ٥١٨)، و «البيان والتحصيل» (٣/ ٤٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>