للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رَسولِه وإجماعَ المُسلِمينَ، ولا يَفعلُ ذلكَ إلَّا مَنْ لَم يكنْ عِندَه عِلمٌ، فهذا حَسْبُه أنْ يُعذَرَ، لا يَجبُ اتِّباعُه، ومُعانِدٌ مُتَّبِعٌ لهَواهُ، لا يَقبلُ الحَقَّ إذا ظهَرَ لهُ، ولا يُصغِي لمَن يَقولُه ليَعرِفَ ما قالَ، بَلْ يَتبَعُ هَواهُ بغَيرِ هُدًى مِنَ اللهِ، ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾، فإنهُ إمَّا مُقلِّدٌ وإمَّا مُجتهِدٌ، فالمُقلِّدُ لا يُنْكِرُ القولَ الَّذي يُخالِفُ مَتبُوعَه إنكارَ مَنْ يَقولُ هو باطِلٌ، فإنهُ لا يَعلمُ أنهُ باطِلٌ، فَضلًا عَنْ أنْ يُحرِّمَ القولَ بهِ ويُوجِبَ القولَ بقَولِ سلَفِه، والمُجتهِدُ يَنْظُرُ ويُناظِرُ، وهو معَ ظُهورِ قَولِه لا يُسوِّغُ قولَ مُنازعِيه الَّذي ساغَ فيهِ الاجتِهادُ، وهو ما لم يَظهرْ أنهُ خالَفَ نَصًّا ولا إجماعًا، فمَن خرَجَ عَنْ حَدِّ التَّقليدِ السَّائغِ والاجتِهادِ كانَ فيهِ شَبَهٌ مِنَ الَّذينَ ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾، وكانَ مَنْ اتَّبعَ هَواهُ بغَيرِ هُدًى مِنَ اللهِ، ومَن قالَ: «إنَّه اتَّبعَ هذهِ الفُتيا فوُلِدَ لهُ وَلدٌ بعدَ ذلكَ فهوَ وَلَدُ زِنا» كانَ هذا القائِلُ في غايَةِ الجَهلِ والضَّلالِ والمُشاقَّةِ للهِ ولرَسولِه.

وعلى الجُملةِ إذا كانَ المُلتَزَمُ بهِ قُربةً للهِ تعالَى يَقصدُ بهِ القُربَ إلى اللهِ تعالَى لَزمَه فِعلُه أو الكفَّارةُ، ولوِ التَزَمَ ما ليسَ بقُربةٍ كالتَّطليقِ والبَيعِ والإجارةِ ومِثلِ ذلكَ لَم يَلزمْه، بل يُجزِيهِ كفَّارةُ يَمينٍ عِنْدَ الصَّحابةِ وجُمهورِ المُسلمِينَ، وهو قولُ الشَّافعيِّ وأحمدَ، وإحدَى الرِّوايتَينِ عَنْ أبي حَنيفةَ، وقَولُ المُحقِّقِينَ مِنْ أصحابِ مالكٍ؛ لأنَّ الحالِفَ بالطَّلاقِ على وَجهِ اليَمينِ يَكرهُ وُقوعَه إذا وُجِدَ الشَّرطُ كما يَكرهُ وُقوعَ الكُفرِ؛ فلا يَقعُ وعليهِ الكفَّارةُ، واللهُ أعلَمُ (١).

وقالَ الإمامُ ابنُ القَيِّمِ : وقَدِ اتَّفقَ النَّاسُ على أنه لو قالَ: «إنْ فَعلْتُ كذا فأنا يَهوديٌّ أو نَصرانِيٌّ» فحنَثَ أنهُ لا يَكفُرُ بذلكَ إنْ قصَدَ اليَمينَ؛ لأنَّ قصْدَ اليَمينِ منَعَ مِنَ الكُفرِ، وبهذا وغَيرِه احتَجَّ شَيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميةَ على أنَّ الحلِفَ بالطَّلاقِ والعِتاقِ كنَذرِ اللَّجاجِ والغضَبِ وكالحلِفِ بقَولِه: «إنْ فَعلْتُ كذا فأنا يَهوديٌّ أو نَصرانِيٌّ»، وحَكاهُ إجماع الصَّحابةِ في العِتقِ، وحَكاهُ غَيرُه إجماعًا لهمْ في الحَلفِ بالطَّلاقِ على


(١) «مجموع الفتاوى» (٣٣/ ١٣١، ١٤٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>