فذهَبَ جُمهورُ الفُقهاءِ الحَنفيةُ والمالِكيةُ والشافِعيةُ والحَنابِلةُ في قَولٍ أنَّه لا يَرجعُ على المُلتقِطِ بشَيءٍ كما لو تبَرَّعَ به؛ لأنَّه غيرُ مَجبورٍ على ما صنَعَ شرعًا، والمُتطوِّعُ مَنْ يَكونُ مُخيَّرًا غيرَ مُجبَرٍ على إِيجادِ شَيءٍ شَرعًا، ولو أنفَقَ على وَلدٍ له أبٌ مَعروفٌ بغيرِ إِذنِ أَبيه كانَ مُتطوِّعًا في ذلك، فكذلك إذا أنفَقَ على اللَّقيطِ، وهذا لأنَّه بالالتِقاطِ يَثبتُ له مِنْ الحَقِّ بقَدرِ ما يَنتفعُ به اللَّقيطُ، وهو الحِفظُ والتَّربيةُ، ولمْ يَثبتْ له عليه وِلايةُ إِلزامِ شَيءٍ في ذِمتِه؛ لأنَّ ذلك لا يَنفعُه، ولأنَّه ليسَ بينَهما سَببٌ مُثبِتٌ للوِلايةِ، ولهذا لا يَرجعُ بالنَّفقةِ عليه، ولأنَّ الغالِبَ مِنْ أَحوالِ الناسِ أنَّهم بمِثلِ هذا يَتبَرَّعونَ، وفي الرُّجوعِ لا يَطمَعونَ، ومُطلَقُ الفِعلِ مَحمولٌ على ما هو المُعتادُ (١).
إلا أنَّ المالِكيةَ قالوا: يَثبتُ للمُلتقِطِ الرُّجوعُ على أَبي الطِّفلِ المُلتقَطِ بالنَّفقةِ التي أنفَقَها عليه إنْ كانَ أَبوه طرَحَه عَمدًا بإِقرارٍ أو ببَينةٍ، بشَرطِ أنْ يَثبتَ الإِنفاقُ ويَحلِفَ أنَّها كانَت على وَجهِ السَّلفِ لا على وَجهِ الهِبةِ، ويُشترطُ أنْ يَكونَ الأَبُ مُوسِرًا حينَ الإِنفاقِ، ويَرجعُ عليه حينَئذٍ بنَفقةِ المِثلِ، أما لو تاهَ منه أو هرَبَ أو نحوُ ذلك فأنفَقَ عليه شَخصٌ نَفقةً فإنَّه
(١) «المبسوط» (١٠/ ٢١٠، ٢١١)، و «مختصر اختلاف العلماء» (٤/ ٣٥٠، ٣٥١)، و «المهيد» (٣/ ١٢٨، ١٢٩)، و «الكافي» (١/ ٤٨٤)، و «تفسير القرطبي» (٩/ ١٣٥)، و «الإشراف على نكت مسائل الخلاف» (٣/ ٢٧٨)، رقم (١١١٩)، و «جامع الأمهات» ص (٤٦٠)، و «التاج والإكليل» (٥/ ٤٥)، و «شرح مختصر خليل» (٧/ ١٣١، ١٢٣)، و «الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي» (٥/ ٥٣٤، ٥٣٥)، و «تحبير المختصر» (٥/ ٤٤، ٤٥)، و «الإشراف» (٦/ ٣٦٠).