للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والثاني: أنَّ الوُضوءَ إذا جاءَ على لِسانِ الشارِعِ وجَبَ حَملُه على المَوضوعِ الشَّرعيِّ دونَ اللُّغويِّ؛ لأنَّ الظاهِرَ منه أنَّه إنَّما يَتكلَّمُ بمَوضعاتِه.

والثالِثُ: أنَّه خرَجَ جَوابًا لسُؤالِ السائِلِ عن حُكمِ الوُضوءِ من لُحومِها والصَّلاةِ في مَبارِكِها، فلا يُفهمُ من ذلك سِوى الوُضوءِ المُرادِ للصَّلاةِ.

والرابِعُ: أنَّه لو أرادَ غَسلَ اليَدِ لمَا فرَّقَ بينَه وبينَ لَحمِ الغَنمِ؛ فإنَّ غَسلَ اليَدِ منهما مُستحبٌّ، ولهذا قالَ: «مَنْ باتَ وفي يَدِه رِيحُ غَمَرٍ (١) فأصابَه شَيءٌ فلا يَلومَنَّ إلا نَفسَه» (٢). وما ذَكَروه من زيادةِ الزُّهومةِ فأمْرٌ يَسيرٌ لا يَقتَضي التَّفريقَ، واللهُ أعلَمُ.

ثم لا بدَّ من دَليلٍ نَصرفُ به اللَّفظَ عن ظاهِرِه، ويَجبُ أنْ يَكونَ الدَّليلُ له من القُوةِ بقَدرِ قُوةِ الظَّواهرِ المَتروكةِ وأَقوى منها، وليسَ لهم دَليلٌ، وقياسُهم فاسِدٌ؛ فإنَّه طَرديٌّ لا مَعنى فيه، وانتِفاءُ الحُكمِ في سائِرِ المَأكولاتِ لانتِفاءِ المُقتَضى لا لكَونِه مَأكولًا، فلا أثَرَ لكَونِه مَأكولًا، ووُجودُه كعَدمِه.

ومن العَجبِ أنَّ مُخالِفينا في هذه المَسألةِ أوجَبوا الوُضوءَ بأَحاديثَ ضَعيفةٍ تُخالِفُ الأُصولَ، فأبو حَنيفةَ أوجَبَه بالقَهقَهةِ في الصَّلاةِ دونَ خارِجِها بحَديثٍ من مَراسيلِ أبي العاليةِ، ومالِكٌ والشافِعيُّ أوجباه بمَسِّ الذَّكرِ بحَديثٍ مُختلَفٍ فيه، مُعارَضٌ بمِثلِه دونَ مَسِّ بَقيةِ الأَعضاءِ، وترَكوا


(١) قالَ ابن الأثير في «النهاية» (٣/ ٣١٧): الغَمَرُ بالتَّحريكِ: الدَّسمُ والزُّهومةُ من اللَّحمِ، كالوَضرِ من السَّمنِ.
(٢) حَدِيثٌ صَحِيحٌ: رواه الترمذي (١٨٥٩، ١٨٦٠)، وابن ماجه (٣٢٩٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>