وهكذا كانَ مَسلكُ الفُقهاءِ والأئِمةِ من السَّلفِ الصالِحِ ﵃ عندَما كانوا يَختلِفونَ في حُكمِ القَضايا والمَسائلِ الاجتِهاديةِ يُقدِّرُ بعضُهم بعضًا ولا يَتعصَّبونَ لآرائِهم، بل يَعمَلونَ بما اتَّفَقوا عليه، ويَعذِرُ بعضُهم بعضًا فيما اختَلَفوا فيه.
يَقولُ الدُّكتورُ البيانونِيُّ في كِتابِه القَيِّمِ «الاختِلافات العِلمية»: قد اقتَضَت حِكمةُ الشارِعِ أنْ يَأتِيَ الدَّليلُ الشَّرعيُّ صَريحًا قاطِعًا في أُمَّهاتِ المَسائلِ الشَّرعيةِ، والأُصولِ العِلميةِ؛ دَرءًا لمَفسدةِ الخِلافِ فيها، والافتِراقِ حَولَها، وأنْ يَأتِيَ الدَّليلُ الشَّرعيُّ غالِبًا مُحتمَلًا ظَنيًّا في المَسائلِ الفَرعيةِ، والفُروعِ العَمليةِ، تَحقيقًا لمَصلحةِ إِعمالِ الرأيِ والاجتِهادِ فيها.
وفي بَيانِ هذه الحَقيقةِ يَقولُ الإِمامُ ابنُ حَزمٍ ﵀: وأكثَرُ افتِراقِ أهلِ السُّنةِ في الفُتيا، ونُبذٍ يَسيرةٍ في الاعتِقاداتِ (١).
ويَقولُ الإِمامُ المَحلَّاويُّ في كِتابِه «تَسهيل الوُصولِ» نَقلًا عن الإِمامِ الزَّركَشيِّ ﵀: اعلَمْ أنَّ اللهَ تَعالى لم يَنصِبْ على جَميعِ الأَحكامِ الشَّرعيةِ أدِلةً قاطِعةً، بل جعَلَها ظَنيَّةً قَصدًا للتَّوسيعِ على المُكلَّفينَ لئلَّا يَنحصِروا في مَذهبٍ واحِدٍ لقيامِ الدَّليلِ القاطِعِ.
وذلك لأنَّ اللهَ بحِكمتِه جعَلَ مُعظمَ أدِلةِ العَقيدةِ صَريحةَ الدِّلالةِ على المُرادِ منها، وهو مَا يُقلِّلُ ويُضيِّقُ مَيدانَ الاجتِهادِ فيها، خِلافًا لأدِلةِ الفِقهِ،