الجبار، فظائعهم فى قسطنطينية، وما جنوا على الحضارة البيزنطية العظيمة. من صنوف الدمار والمحو. غير أن ابن إياس لم يكن مصورا بارعا للحوادث، ولم يكن بالأخص ناقدا قوى التعليل، يقرأ فى الحوادث غير نواحيها المادية، ولكن كثيرا من الافاضة وقليلا من التأمل، وطرفا من الملاحظة القوية، تعوض عن هذا النقص فى كثير من المواقف، وتقدم إلى النقدة مادة لا بأس بها.
وقد بينا أن مصر كانت ترجف لشبح هذا الفتح قبل وقوعه، وكيف أن المؤرخ كان يستشعر النكبة ولكن مصر لم تكن تتوقع أن يسحق استقلالها ومجدها التالد فى لمحة صاعقة. فكانت "مرج دابق" مفاجأة مروعة، ذهلت لها مصر وصعقت، ويبدو أثر هذا الروع واضحا فى أول صرخة تبدر من المؤرخ فى ذكر النكبة إذ يقول:"وفى يوم السبت السادس عشر من شعبان أشيع خبر هذه الكائنة العظيمة، التى طمت وعمت، وزلزلت لها الأقطار".
ولا غرو فقد خرج السلطان الغورى إلى شمال الشام قاصية الحدود المصرية يومئذ، بجيشه الزاهر ليرد عادية الغزاة عن مصر، فكانت مرج دابق قبرا له ولحريات مصر. يقول المؤرخ:
"وزال ملك الأشرف الغورى فى لمح البصر، فكأنه لم يكن، فسبحان من لا يزول ملكه".
ويفيض بعد ذلك فى تفاصيل الموقعة الهائلة التى نشبت بين الغزاة وبين الجيش المصرى فى "مرج دابق" فى الخامس والعشرين من شهر رجب سنة ٩٢٢ هـ (أغسطس سنة ١٥١٦ م) وما أوقعه الغزاة بمعسكر مصر من سفك ونهب، ويصف صدى النكبة فى القاهرة، وكيف كان نعى السلطان فى ذلك اليوم، ونعى الأمراء والأعيان الذين قتلوا. وصار فى كل حارة وزقاق وشارع من القاهرة صراخ وبكاء .. ورجت القاهرة، وضجت الناس، واضطربت الأحوال، وكثر القيل والقال. ثم يقف المؤرخ قليلا ليصف الغورى وخلاله، ويعدد مآثره ومثالبه، ويختتم ابن إياس حديثه عن الغورى، وعن عصره وأعماله، بإيراد زجل طويل مؤثر لصديقه بدر الدين الزيتونى وهو من أشهر أدباء هذا العصر، وفيه يصف النكبة، ويرثى الغورى فى مقاطيع مبكية نقتبس منها ما يأتى: