للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وانقض الغزاة على القاهرة كالضوارى المفترسة، فأوقعوا فى سكانها السفك الذريع، وأمعنوا فى الآمنين قتلا وعبثا وهتكا ونهبا. ودامت هذه المذبحة الهائلة أياما أربعة، وذلك من ثامن المحرم سنة ٩٢٣ هـ (أوائل فبراير ١٥١٧ م) ويصفها ابن إياس "بالمصيبة العظمى التى لم يسمع بمثلها فيما تقدم من الزمان، ثم يقول:" إن الجثث كانت مرمية فى الطرقات من باب زويلة إلى الرميلة ومن الرميلة إلى الصليبة، إلى قناطر السباع، إلى الناصرية، إلى مصر العتيقة، ويقدر القتلى بأكثر من عشرة آلاف ويقدر من قتل من المماليك فقط بثمانمائة، ويقدر البعض الآخر ضحايا هذه الجريمة الشائنة بخمسة وعشرين ألفا، ولم يمض على ذلك أسابيع قلائل حتى أمر سليم الأول بإعدام من بقى من الأمراء المماليك، وكان قد احتال عليهم، ووعدهم بالأمان حتى ظهروا، وعددهم أربعة وخمسون أميرا وقائدا، وقبض على نسائهم وفرضت عليهن الغرامات الفادحة. ثم كانت الموقعة الأخيرة والفاصلة فى السادس من ربيع الأول (أبريل سنة ١٥١٧ م) بين الغزاة وبين جيش طومان باى، فإن هذا الأمير الجلد الشجاع، عاد بقواته على مقربة من الجيزة يحاول مرة أخرى إنقاذ الوطن من براثن الوندال ولكن القدر ظل على عبوسه له، فهزم للمرة الخامسة وغاص كل أمل فى إنقاذ حريات مصر واستقلالها. كان طومان باى قرين قسطنطين باليولوج، أخر القياصرة الرومان، يكافح وحياته تهتز فى يده، ويطلب الموت كما كان يطلبه أخر القياصرة، ولا يشعر بأى أمل حقيقى فى دفع الغزاة. وقد ظفر الفاتح بعد ذلك بطومان باى، وأمر بإعدامه فشنق على باب زويلة، أمام أعين ذلك الشعب الذى كان مليكه قبل ذلك بأشهر قلائل، والذى أحبه وقدر خلاله وبطولته. ويرثيه المؤرخ فى قوله: "صرخت الناس عليه صرخة عظيمة، وكثر عليه الحزن والأسف. وكان شجاعا بطلا، تصدى لقتال ابن عثمان، وثبت وقت الحرب بنفسه، وفتك فى عسكر ابن عثمان، وقتل منهم ما لا يحصى، ووقع منه فى الحرب أمور لم تقع من الأبطال العناترة .. وقاسى شدائد ومحنا، وحروبا وشرورا وهجاجا. ولم يسمع بمثل هذه الوقعة فيما تقدم من الزمان، أن سلطان مصر شنق على باب زويلة قط".

ولبث سليم الأول فى القاهرة زهاء ثمانية أشهر، يذيق وجنده المصريين أشنع ألوان السفك والظلم والمصادرة، ويجمع من تراث مصر وثرواتها الفنية، كل ما وصلت إليه يده، ويخرب المساجد والآثار الخالدة لينتزع منها نفائسها الفنية، ويبعث بها إلى قسطنطينية.

ويقبض على أكابر مصر وزعمائها وعلمائها، ورجال المهن والفنون فيها، ومهرة الصناع والعمال، ويحشدهم أكداسا فى السفن ويبعث بهم إلى قسطنطينية وكان فى مقدمة هؤلاء

<<  <   >  >>