للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومما وقع في أيامه من الحوادث إن النصارى كان عندهم صندوق من الخشب، وفيه أصبع بعض من هلك من عبادهم، يسمونه الشهيد، وكان هذا الصندوق في كنيسة من كنائسهم، يحفظونه غاية الاحتفاظ.

فإذا كان يوم الثامن من شهر بشنس من شهور القبط، أخرجوا ذلك الصندوق الذي فيه الأصبع، وتوجهوا به إلى نحو شبرا، وهي من ضواحي القاهرة، فيلقون ذلك الأصبع في بحر النيل، ويغسلونه فيه، ويزعمون أن النيل لا يزيد إلا بإلقاء ذلك الأصبع فيه، ثم يعيدونه إلى الصندوق، ويحتفظون به إلى العام القابل، فيلقونه أيضًا في النيل في التاريخ المذكور، فأقاموا على ذلك دهرًا طويلا.

وكان يحصل بسبب ذلك من الفساد، وارتكاب المعاصي ما لا يسمع بمثله، فكان أهل مصر يخرجون إلى شبرا، وينصبون الخيام على شاطئ بحر النيل، ويمتلئ البحر بالمراكب من كل جانب، ولم يبق في القاهرة مُعْنٍ ولا مغنية، ولا صاحب آلة، ولا رب ملعوب، إلا ويخرج إلى شبرا في يوم عيد الشهيد، فيجتمع هناك عالم لا يحصى، وتنفق (١) أموال لا تنحصر، ويتجاهرون بما لا ينبغي شرحه من المعاصي.

وكان اعتماد فلاحين شبرا دائمًا في وفاء الخراج على ما يبيعونه من الخمر في يوم عيد الشهيد، وكانت شبرا تزرع كلها كروم بسبب ذلك، حتى قيل: كان يباع في ثلاثة أيام من عيّد الشهيد بخمسة آلاف دينار (٢) خمرًا.

ولم يزل ذلك الحال على ما ذكرناه من الاجتماع واللهو في ذلك المكان، في كل سنة أيام عيد الشهيد إلى أن دخلت سنة خمس وخمسين وسبعمائة، وذلك في أواخر دولة الملك الصالح صالح بن الناصر محمد بن قلاون.

فتعصب الأمير صرغتمش الناصري، وقام في ذلك قيامًا عظيمًا الله تعالى، وألزم السلطان الملك الصالح بإبطال ذلك (٣)، فرسم السلطان لحاجب الحجاب،


(١) في الأصل "تنتفق".
(٢) في بدائع الزهور ١/ ١/ ٥٦٥: "بثلاثة آلاف دينار".
(٣) من قام بإبطال ذلك العيد الملك الناصر حسن، والخبر ذكر في أحداث سنة ٧٥٩ هـ. (انظر: بدائع الزهور ١/ ١/ ٥٦٥ - ٥٦٧)؛ وجاء الخبر عند المقريزي فيقول: "وكانت مدة انقطاع عمل عيد الشهيد منذ أبطله الأمير بيبرس إلى أن أعاده الملك الناصر، ستا وثلاثين سنة، واستمر عمله في =

<<  <   >  >>