وَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ عَلَى النَّصَارَى مِيثَاقًا عَلَى لِسَانِ الْمَسِيحِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَبَعْضُهُ مَذْكُورٌ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْأَنَاجِيلِ.
وَقَوْلُهُ: فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ حَقِيقَةُ الْإِغْرَاءِ حَثُّ أَحَدٍ عَلَى فِعْلٍ وَتَحْسِينُهُ إِلَيْهِ حَتَّى لَا يَتَوَانَى فِي تَحْصِيلِهِ فَاسْتُعِيرَ الْإِغْرَاءُ لِتَكْوِينِ مُلَازَمَةِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ فِي نُفُوسِهِمْ، أَيْ لُزُومِهِمَا لَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، شُبِّهَ تَكْوِينُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ مَعَ اسْتِمْرَارِهِمَا فِيهِمْ بِإِغْرَاءِ أَحَدٍ أحدا بِعَمَل يعْمل تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ. وَلَمَّا دَلَّ الظَّرْفُ، وَهُوَ بَيْنَهُمُ، عَلَى أَنَّهُمَا أُغْرِيَتَا بِهِمُ اسْتُغْنِيَ عَنْ ذِكْرِ متعلّق فَأَغْرَيْنا. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: فَأَغْرَيْنَا الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ بِهِمْ كَائِنَتَيْنِ بَيْنَهُمْ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْعُدُولُ عَلَى تَعْدِيَةِ «أَغْرَيْنَا» بِحَرْفِ الْجَرِّ إِلَى تَعْلِيقِهِ بِالظَّرْفِ قَرِينَةً أَوْ تَجْرِيدًا لِبَيَانِ أَنَّ المُرَاد ب فَأَغْرَيْنا أَلْقَيْنَا.
وَمَا وَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» من تَفْسِير فَأَغْرَيْنا بِمَعْنَى أَلْصَقْنَا تَطَوُّحٌ عَنِ الْمَقْصُودِ إِلَى رَائِحَةِ الِاشْتِقَاقِ مِنِ الْغِرَاءِ، وَهُوَ الدُّهْنُ الَّذِي يُلْصَقُ الْخَشَبُ بِهِ، وَقَدْ تُنُوسِيَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الِاسْتِعْمَالِ. وَالْعَدَاوَةُ وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِإِضَافَةِ بَيْنَ إِلَيْهِ يَعُودُ إِلَى النَّصَارَى لِتَنْتَسِقَ الضَّمَائِرُ.
وَالْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ اسْمَانِ لِمَعْنَيَيْنِ مِنْ جِنْسِ الْكَرَاهِيَةِ الشَّدِيدَةِ، فَهُمَا ضِدَّانِ لِلْمَحَبَّةِ.
وَظَاهِرُ عَطْفِ أَحَدِ الِاسْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي الْآيَتَيْنِ بَعْدَهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي آيَةِ سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ، أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْعَطْفِ بِهَذَا التَّرْتِيب ببعد أَنْ يَكُونَ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ، فَلَيْسَ عَطْفُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْمُرَادِفِ لمجرّد التّأكيد، كَقَوْلِه عَدِيٍّ:
وَأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://www.shamela.app/page/contribute