وهناك نوع من الخلاف الذي يقع فيه لمذهب معين الانفراد عن جميع المذاهب يسميه بعض المؤلفين (المفردات) أي ما انفرد به صاحب المذهب عن غيره من الفقهاء، ومن الكتب المشهورة فيه: نظم المفردات للعمري وشرحه للبهوتي، وهو ما انفرد به الإمام أحمد بن حنبل عن بقية الاجتهادات، ولا يخفى أن هذا النمط من الخلاف هو الجدير بالاهتمام، للبحث في أسبابه وتحقيق مستنده، أملًا في زواله أو تضييقه إن كان ممكنًا.
ومن هذه المفردات نوع خاص يتصف بالغرابة والنكارة بالنسبة لجمهور الفقهاء، وهو بمثابة نشاز عن الاتجاهات الفقهية، ولذا يسمونه (نوادر الفقهاء) بمعنى المسائل الشاذة أو الخلاف المشذذ، والفرق بين هذا النوع وبين ما ينفرد به فقيه عن الجمهور دون تشذيذه، أنه قد يكون هذا الانفراد قوي المنزع ظاهر النفع لتحقيقه مقاصد التشريع، وهو حينئذ جدير أن يقويه العمل به، وهذا ما يحصل فعلًا باختياره للقضاء به في أحد العهود الماضية أو في العصر الحاضر (عصر التقنين) .
ولعل هذا المشذذ هو المستحق للبحث والتمحيص، لأن هذا الانفراد مع الاستغراب والاستنكار من بقية الفقهاء، ومن وراءهم من الأتباع، يؤدي إلى الإنكار والجدل في أوساط المتمذهبين، وتنشأ عنه الفرقة والتنازع بين المسلمين.
وفي ذلك يقول التميمي في كتابه (نوادر الفقهاء) : الاجتهاد إنما يجب على العلماء، ويلزم حذاق الفقهاء، إذا لم يكن في النازلة اتفاق على حكم، ولا حقيقة من علم، وإذ قد ثبت مذهبنا فيها بعد إقامة الدليل على مرادنا فيها، فلنصف الآن من مسائل الفقه ما وصل إلينا وقدرنا عليه من خلال الأقوال النادرة عن الإجماع على خلافها، ليكون من علم على حقيقة من أمره، وهداية في حكمه (١) .
على أنه إذا وجدت المسألة في مذهبين فقد خرجت من هذا الباب، واندرجت في الخلاف الفقهي المعتاد الذي لا مطمع في إزالته، وهو مظهر صحة في جسم الفقه الإسلامي، ما دام أدب الخلاف محل رعاية وتطبيق.
والمسائل الخلافية أكثرها ذو طابع جزئي تفريعي، ويكون أصل المسألة موضع وفاق، لا شك أن الاشتغال بهذا لا طائل تحته، لأن هذه الفروع والمسائل الجزئية كثيرًا ما يقع الخلاف فيها داخل المذهب نفسه، كما تكون في الغالب من اجتهادات فقهائه المتأخرين بعد عهد أئمتهم المجتهدين.
وهناك أمر شبيه جدًّا بتلك التفريعات الفقهية المتأخرة عن عهد الأئمة والتخريجات المحمولة على مذاهبهم، أو الترجيحات المتنازع فيها، وهو تجدد الاجتهاد، أو ما يطلق عليه أجوبة المجتهد الحي لدى الشيعة، حيث هناك تفضيل للعمل، (وربما يتعين عند البعض) ، أن تصدر أجوبة وإفادات فقهية من مجتهد حي، وكثيرًا ما تخالف في الرأي والترجيح - على الأقل - ما كان عليه العمل قبله أو في الكتب المصنفة، وسيأتي مزيد بيان ذلك.