للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وروى النسخ سعيد بن جبير عن الحكم عن مجاهد وروى سفيان عن السعدي عن عكرمة مثله.

ورجح الجصاص النسخ وعلق عليه بقوله: ومعلوم أن ذلك لا يقال عن طريق الرأي؛ لأن العلم بتواريخ نزول الآية لا يدرك من طريق الرأي والاجتهاد وإنما طريقه التوقيف ولم يقل من أثبت التخيير أن آية التخيير نزلت بعد قوله {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: ٤٩] وأن التخيير نسخه، وإنما حكى عن مذاهبهم في التخيير من غير النسخ فثبت نسخ التخيير بقوله {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: ٤٩] كرواية من ذكر نسخ التخيير، ويدل على نسخ التخيير قوله {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: ٤٤] الآيات (١) .

وذكر القرطبي أن القول بالنسخ هو قول عمر بن عبد العزيز وهو مذهب عطاء الخراساني وأبي حنيفة وأصحابه.

ونقل عن النحاس في (الناسخ والمنسوخ) له قوله تعالى {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: ٤٢] منسوخ؛ لأنه إنما نزل أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود فيها يومئذ كثير، وكان الأدعى لهم والأصلح أن يردوا إلى أحكامهم، فلما قوي الإسلام أنزل الله عز وجل {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: ٤٩] وقاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز والسدي.

ثم رجح قول القائلين بالنسخ فقال: فثبت أن قول أكثر العلماء أن الآية منسوخة مع ما ثبت فيها من توقيف ابن عباس. ولو لم يأت الحديث عن ابن عباس لكان النظر يوجب أنها منسوخة؛ لأنهم قد أجمعوا على أن أهل الكتاب إذا تحاكموا إلى الإمام فله أن ينظر بينهم وأنه إذا نظر بينهم مصيب عند الجماعة وإلا يعرض عنهم فيكون عند بعض العلماء تاركًا فرضًا فاعلًا ما لا يحل له ولا يسعه (٢) .

ووفق فريق بين الرأيين السابقين فقال: إن التخيير في أهل العهد الذين لا ذمة لهم ولم يجر عليهم أحكام المسلمين كأهل الحرب إذا هادناهم، وإيجاب الحكم بما أنزل الله في أهل الذمة الذين يجري عليهم أحكام المسلمين.

قال الجصاص: وقد روى ابن عباس ما يدل على ذلك روى محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن الآية التي في المائدة قوله الله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: ٤٢] إنما نزلت في الدية بين بني قريظة وبين بني النضير وذلك أن بني النضير كان لهم شرف بدون دية كاملة وأن بني قريظة بدون نصف الدية فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ذلك فيهم فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك فجعل الدية سواء ومعلوم أن بني قريظة وبني النضير لم تكن لهم ذمة قط وقد أجلى النبي صلى الله عليه وسلم بني النضير وقتل بني قريظة ولو كان لهم ذمة لما أجلاهم ولا قتلهم، وإنما كان بينهم وبينه عهد وهدنة فنقضوها.


(١) أحكام القرآن للجصاص جـ ٤ / ٨٧، ٨٨
(٢) الجامع لأحكام القرآن جـ ٦ / ١٨٥، ١٨٦

<<  <  ج: ص:  >  >>