للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إذن أقول: إن المسألة الآن مسألة العقد وما صانه الشرع به وما أحاطه من ضمانات كيف نخترق هذا الحصار ونصل إلى هذه المعاملة بعد أن استقرت لنفتح فيها بابًا لكي نتدخل بتدخل من التدخلات؟ هذه هي الصعوبة الأولى التي نستطيع أن نقول: إن فقهاءنا –رضوان الله عليهم- حينما قضوا بالمثل فيها إنما قضوا من منطلق القواعد الشرعية المتمثلة في وجوب أن تؤدى الحقوق بأمثالها أولًا، أو بالصورة والمعنى وهو المثل، وذلك مستقر –كما تعلمون- سواء كان ذلك في دائرة المعاملات (الذهب بالذهب) أم كان في دائرة الضمانات {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: ١٩٤] ، في طعام بطعام وقصعة بقصعة، إلى آخر ذلك مما ذلك مما لا مجال للبحث فيه.

الانتقال من المثل عند الفقهاء قد يلحظ ويستشف من خلال ما أوجبه الشرع من خيارات فإنه لا ينتقل من واجب إلى واجب إلا إذا قال (فمن لم يجد) ، (فمن لم يستطع) ، يعني جعل الاستطاعة وجعل عدم الوجود وسيلة إلى الانتقال إلى القيمة، أو بعبارة أخرى عندما تتعذر القيمة أو تتأثر –وذلك عندما يتعذر المثل- حينئذ يفتح باب القيمة كي يؤدى الحق معنى لا صورة، وهذا هو الذي جعل جمهور الفقهاء يتجهون إلى القيمة في مثل ذلك ويصرون عليها –كما رأينا- سوى بعض فقهاؤنا الأجلاء حينما فتحوا هذا الطريق أمام الحقيقة التي تواجهنا اليوم. هذه النقطة الأولى.

النقطة الثانية: وهي أن الزيادة والنقص في سعر العملات أو النقود. الواقع أننا نحن نلحظ أنه أمر متغلب، وأمر لا يستقر على حال. ومن هنا فهو يعلو وينخفض أو يستمر في الارتفاع لا نعرف ما مداه ولا ضبطه، وقد يقال لنا: إن ربط الأحكام الشرعية إنما يكون بالعلل الظاهرة المنضبطة، أو بالأمور الظاهرة المنضبطة التي يدور معها الحكم وجودًا وعدمًا، ومن ثم فالأمر المتقلب الأمر الذي قد يحدث أو لا يحدث أو يحدث في آن ولا يحدث في آخر قد يكون ربط الحكم به صعبًا أمامنا.

النقطة الثالثة: كما سمعنا وعلمنا أن موضوع التضخم وضبطه –وهو يرتبط بما تقدم- صعب. يعني كيف نكيفه؟ أو كيف نحدده؟ ومتى نقول: إنه ننتقل من المثل إلى القيمة؟ وكما رأينا بالأمس بعض الإخوان قالوا الثلث. قد يكون كما قال بعض الفقهاء بالنسبة للغبن وغيره، قد يقال الثلث والثلث كثير، لكن هذا في التبرعات، وحينما يتبرع الإنسان فالتبرع عادة إنما يقول لأجل لا يؤثر على حقوق الآخرين، يعني مراعى فيه اليسير وليس هو صالح لما معنا. هذا أيضًا يعني ضبط التضخم محتاج إلى اجتهاد، ولكي نستطيع أن نصل إلى حقيقة مستقرة ثابتة يربط بها الحكم.

النقطة الرابعة: حق العدالة الذي نتكلم عنه دائمًا ونتحدث في دائرته هو الواقع أن العدالة يجب أن تكون مراعاة في كلا الاثنين، الدائن والمدين. يعني حينما ننظر إلى التضخم أو ننظر إلى انخفاض سعر العملة ونراعيها ونرعى في هذا الدائن أيضًا أن ينطلق إلى المدين حينما تعز النقود كما تحدث فقهاؤنا –رضوان الله عليهم- في ذلك، كما تناولوا هذه القضية، تناولوا عزة النقود وغلوها وتحدثوا فيها حديثًا، نجد من المنطلق الموجود في حالة النقصان نجده هو نفسه في داخل حالة زيادة السعر. فلا بد إذن أننا إذا انطلقنا أن نراعي الاثنين كما رعاهما الشرع أولًا، يجب أن نراعيهما هما أيضًا في حقوقنا ثانيًا حتى لا نميل إلى جانب ونترك الجانب الآخر.

<<  <  ج: ص:  >  >>