للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

القسم الثانى: جهل لا يعذر فيه صاحبه، لأنه تقصير، وضرب من التخلي عن الواجب، وضابطه: كل ما لا يمكن للمسلم تركه والاستغناء عنه، ولا مشقة في علمه، من أحكام الديانة والشريعة التي تتصل بحياته العادية. مثل مسائل العقيدة التي لا تخفى على عامة الناس، ومثل ضروريات العبادة وجملة الأحكام التي تتوقف عليها، من صلاة وزكاة وصوم وحج، ومثل ضروريات التعامل وما يحل منها وما يحرم في الجملة.

وبالجملة فإن الإنسان لا يعذر بجهله في كل ما يرجع إلى القضايا والأحكام الداخلة تحت القسم الأول من أقسام العلم، وهو العلم الواجب وجوبًا عينيًا، والذي يقتضي معرفة كافية بضرورات الحياة سواء منها الراجع للمعتقد أو للعبادة أو للتعامل.

وقسم الحنفية الجهل إلى أربعة أقسام باعتبار كونه يصلح عذرًا أو لا يصلح:

الأول: جهل ممقوت لا يعذر به صاحبه، ومن هذا الصنف:

- جهل الكافر بصفات الله تعالى، وبأحكام الآخرة بإجمال؛ لا يعذر به صاحبه في الآخرة، وإن درأ عنه القتل في الدنيا، وجاز قبوله في أهل الذمة.

- جهل الباغي مرفوض حتى يسترد منه ما أتلف أو اغتصب.

- جهل من خالف في اجتهاده صريح الكتاب والسنة، وإجماع الأمة والقياس الجلي

الثاني: جهل يصلح عذرًا باعتبار ما فيه من شبهة، مثال هذا الصنف من وطئ جارية أبيه، أو نكح زوجته من بعده، ظانا أنهما تحلان له.

الثالث: جهل يكون عذرًا لصاحبه، ومثاله: من أسلم من كفار دار الحرب، وبقي حيث هو ولم يقدر على الهجرة لدار الإسلام، فترك العديد من الواجبات لجهله بها، فإنه يعذر ولا إثم عليه.

الرابع: ملحق بما تقدم في قبوله عذرا لصاحبه، مثل جهل الشفيع بوقوع البيع أو بحقه في الشفعة جهل الأمة بوقوع العتق وجهل البكر بأن وليها قد أنكحها. إلى غير ذلك من الأمثلة والفروع التي أفاضت فيها كتب الفتاوى.

٨- النسيان أو السهو: من نسي الشيء أو سها عنه، بمعنى أنه لم يتذكره وقت الحاجة. والظاهر أن النسيان والسهو مترادفان في المدلول المراد منهما عند الأصوليين، خلافًا لمن زعم أن بينهما فرقًا. وقد اتفق العلماء على أن النسيان أو السهو مسقط للإثم مطلقًا لحديث ثوبان رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) (١) .

فقد دل الحديث على رفع حكم النسيان، وهذا الحكم مشترك لأنه إما أخروي وإما دنيوي، والأخروي مراد به الإثم، والدنيوي مراد به الفساد أو البطلان.

والظاهر أن الحكم الأخروي وهو الإثم مرتفع عمن نسي واجبًا أو ترك مأمورًا لم يفعله، وإلى هذا الحكم ينصرف الفهم للحديث. وأما الحكم الدنيوي المتمثل فيما يفعل بالواجب المنسي؛ فليس في الحديث ما يفيد إسقاط هذا الواجب على العموم، ولذا وجب القضاء لتبرأ الذمة، إلا ما أفاده النص على خلاف ذلك، كمن أكل ناسيًا في رمضان فلا قضاء فيه عند أبي حنيفة خلافًا لمالك الذي يوجب القضاء وإنما أخذ أبو حنيفة في قوله بعدم قضاء المفطر ناسيًا يومه، بما جاء في الحديث نفسه من قوله صلى الله عليه وسلم: (( ... فليتم صيامه، فإنما أطعمه الله وسقاه)) (٢) . وإطعام الله الذي لا دخل للصائم فيه لا يفسد الصيام وحينئذ لا قضاء.


(١) رواه الطبراني عن ثوبان: كما أخرجه أبو داود وابن ماجه وابن حبان وأبو نعيم في الحلية.
(٢) تقدم الحديث في النوع الأول (تخفيف الإسقاط) من التقسيم الرابع، باعتبار أنواع التخفيف

<<  <  ج: ص:  >  >>