للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد جاءت في هذا المعنى عدة أحاديث، نقتصر منها على ما يلى:

- عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته (١) وفي رواية أخرى ط عليكم برخصة الله الذي رخص لكم)) (٢) .

فالدعوة إلى العمل بالرخصة في هذا الحديث لا غبار عليها، فالله يحب أن تؤتى رخصه، والرسول صلى الله عليه وسلم يحضنا على العمل برخصة الله التي رخص لنا.

- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل في ظل شجرة يرش عليه الماء، فقال: ((ما بال صاحبكم هذا؟ قالوا: يارسول الله صائم! قال: إنه ليس من البر أن تصوموا في السفر، وعليكم برخصة الله التي رخص لكم، فاقبلوها (٣) وفي رواية عنه: ليس من البر الصيام في السفر، عليكم برخصة الله عز وجل فاقبلوها)) .

فالحديث براويتيه يأمر بقبول رخصة الله عز وجل التي رخص لعباده، رحمة بهم، ومنة عليهم ... فماذا يكون موقف الرافض لهذه النعمة من الله عز وجل؟ خصوصًا وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما هؤلاء التاركين أو المعرضين عن الرخصة التي رخص الله لهم عصاة:

- قال جابر رضي الله عنه: ((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم [اسم لواد أمام عسفان] فصام الناس، فبلغه أن الناس قد شق عليهم الصيام، فدعا بقدح من الماء بعد العصر، فشرب والناس ينظرون، فأفطر بعض الناس وصام بعض. فبلغه أن ناسا صاموا، فقال: " أولئك العصاة)) (٤) .

سماهم عصاة للنكير عليهم في مخالفة ما سن لهم، وفي إعراضهم عن هذه المنحة من الله عز وجل.

فهل يبقى شك بعد هذا في أن من أخذ برخصة الله، فقد رضي بحكمه، وقبل شرعه، وفرح بمنحته، وأحب رحمته وتيسيره رأفة بالعباد؟ ومن ترك الرخصة مع وجود دواعيها وأسبابها - ولو بغلبة الظن - فقد ترك شيئا من شرع الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم استحق بسببه أن يوصف بالعصيان عساه أن يمسك عن التمادي في هذه الطريق المؤدية إلى التشديد والغلو، والله تعالى يحب أن ينعم على عباده ويحب أن يحمدوه على نعمه.

للرخصة أسبابها وللعزيمة أسبابها، وعلى المؤمن أن يأخذ بكل عندما يتوفر سببه، والله يحب ذلك وقد جعل التقرب إليه وعبادته بالرخصة كالتقرب إليه وعبادته بالعزيمة.

إن ترك العزيمة معصية إذا توفرت أسبابها، كما أن عدم ترك العزيمة إذا توفرت أسباب الرخصة، جنوح إلى المغالاة والشدة المنهي عنهما، ولهذا قال عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم ((أولئك العصاة)) .

وهذا ما حدث للبعض من شيوخ الصوفية الذين أوصوا تلاميذهم بترك اتباع الرخص جملة، وجعلوا من أوصلهم الأخذ بعزائم العلم، كما نقل ذلك عنهم الشاطبي (٥) فإنهم وقعوا في مخالفة السنة والشريعة بترك الرخصة من حيث أرادوا الحرص على البر بالشريعة، وعلى المزيد من تقوى الله، والشيء إذا تغالوا فيه ووصل إلى الحد رجع إلى الضد كما يقال. والله الهادي إلى سواء السبيل.


(١) انظر مسند الإمام أحمد بن حنبل: ٢ /١٠٨
(٢) هي رواية مسلم: كتاب الصيام: ٩٣ و ١٠٥، والنسائي: صيام: ٤٧ و ٤٨
(٣) أخرجه النسائي: صيام ٤٧
(٤) اخرجه النسائي: صيام ٤٩
(٥) الموافقات: ١/ ٢٠٢

<<  <  ج: ص:  >  >>