والإصلاح بهذه الزواجر والعقوبات، يتوقف أساسًا على العدل في تطبيقها، فالناس أمامها سواء، لا فرق بين الأبيض والأسود، ولا بين الشريف والوضيع، ولا بين القوي والضعيف، ولا بين الغني والفقير. ومن أجل تحقيق هذه العدالة جعل محلها الأبدان، لأن هذه الأبدان تتساوى فيها فطرة الناس من حب البقاء وحفاظ على النفس وفرار من الألم، ولم يكن محلها الأموال لأن اعتبارها والإحساس بها يختلف باختلاف قلتها ووفرتها، وباختلاف ما جبلت عليه النفوس من بخل وفي البخل درجات ومن كرم وفي الكرم درجات أيضًا، ومن أجل هذا لم تجئ في الإسلام عقوبات مالية خارجة عن غرم الضرر أو ضمان المتلف والمغصوب وما في حكمهما، من كل ما فيه إرجاع المال لمستحقه شرعًا وإرجاع الحق لأهله.
وليس في القانون الجزائي الإسلامي عقوبة مالية تكون منفردة أو مضافة إلى العقوبة البدنية كما هو الحال في القوانين الوضعية.
ليس الأخذ بالعزيمة أولى من الترخص
الرخصة والعزيمة قسيمان للحكم الشرعي ولكل أسبابه مع تمييز باللحاق والسبق، وتأصيلهما في الشريعة مقطوع به، فالمنكر للرخصة كالمنكر للعزيمة، فإن كان هذا الإنكار في المعلوم من الدين بالضرورة أوصل صاحبه إلى الكفر.
فإذا قلت: تعود العزيمة إلى سبب قطعي في حين تعود الرخصة إلى سبب ظني!
قلنا: الكل قطعي لأن المظنة في الرخصة منزلة منزلة القطع، وذلك بناء على أن الشارع أجرى الدلائل الظنية في الفروع الشرعية مجرى الدلائل القطعية.
والقول بأنه لا أولوية للعزيمة على قسيمها في الحكم الشرعي الذي هو الرخصة، قول يستند إلى العديد من البراهين، منها:
١- أن العزيمة يتجه أمر المكلف بها بشرط عدم الحرج: فإن وجد الحرج صح اعتباره مقتضيًا للعمل بالرخصة، فأي معنى للأولوية إذا قام الحرج حائلا دون فعل العزيمة!؟
٢- أصل الرخصة وإن كان بمثابة الجزئي، بالنظر إلى أصل عزيمتها، لا يكون مؤثرًا، وإلا لزم القدح في كل جزئي وقع استثناؤه من العموم مع أنه معتبر في نفسه، ومعدود من باب التخصيص للعموم، أو من باب التقييد للمطلق، وقد ذكروا في الأصول الفقهية: أنه يصح تخصيص القطعي بالظني. كما يتعين الرجوع إلى التخصيص – ولو كان بدليل ظني دون العمل بأصل العموم ولو كان دليله قطعيًا.
٣- وكما أجازوا تخصيص القطعي بالظني، أجازوا نسخ حكم القطع السابق بغلبة الظن، مثل حرمة أكل الميتة – وهو حكم قطعي سابق – ينسخ بغلبة الظن – لدى الصياد: أن الموت كان بسبب ضربته وصيده، مع وجود الاحتمال – دائما – أن الموت كان بغير ذلك أصلاً، أو كان بمعين آخر على موت الفريسة. وما ذلك إلا لكون الشريعة قبلت وصححت العمل على مقتضى الظن.
٤- أسلفنا أن أدلة رفع الحرج عن هذه الأمة قد بلغت مبلغ القطع من مثل قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: ٧٨] {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: ٦] {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: ٢٨] {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} [الأحزاب: ٣٨] ، وغيرها من الآيات والأحاديث التي أصلت مبدأ التيسير ورفع الحرج في الشريعة حتى سميت بالحنفية السمحة، ولا نرى وجهًا لتطبيق هذا المبدأ دون اعتبار الرخص والأخذ بها.
٥- مبدأ التيسير ورفع الحرج قررته الشريعة حتى صار أمرًا مقطوعًا به، ولم تقف عند تقريره والإعلان عنه، بل دعت إلى الأخذ به، وأنكرت على المغالين والمتشددين، والنافرين من الرخصة والمنفرين منها.