وثانيًا: فإنا حتى لو غضضنا النظر عن مسألة الشمول التي اقتضتها الواقعية الإسلامية، نجد أن الإسلام بلا ريب أعطى الأمة نظامًا اقتصاديًّا كاملًا يقوم على مذهب محدد، كما أعطانا نظامًا للعقوبات وآخر للشؤون الشخصية , ورابعًا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك، وكل هذه النظم يمتلك الحكم فيها مساحة مهمة بحيث لا يتصور قيام كل منها كنظام إلا بافتراض وجود الدولة الإسلامية التي تحتل ذلك الموقع وتسير على هدى الإسلام وتعيينه لوظيفتها.
يقول الأستذا المرحوم محمد المبارك:"إن مجموع هذه الأحكام الجنائية والمالية والدولية والدستورية لا يمكن أن يعقل إيرادها والالتزام بها التزامًا يعتقد المؤمن بالإسلام بوجوبه والإثم بتركه إلا إذا كان القرآن يفرض على المسلمين تنظيم الحكم وإقامة الدولة.
ولا يعقل أن يقدم الإسلام في قرآنه هذه الأحكام لدولة لا تؤمن أو لا تقوم على أساس عقيدته ومبادئه، ولا يقول بهذا إلا من فقد رشده أو غالط نفسه أو قصد المراوغة والخداع". (١)
والطريف أن نجد جاك روسو يسوغ رفضه الدين العالمي الذي يتدخل في الشؤون المدنية بأن ذلك يؤدي إلى الاعتراف برئيسين وسلطانين وقانونين وهو ما لا ريب في سخفه وعدم إمكانه فيقول: "قد ينقسم الدين على ضوء علاقته بالمجتمع التي تكون إما علاقة عامة أو خاصة إلى نوعين: وهما دين الإنسان ودين الوطن.
الأول: وهو بلا معابد ولا هياكل ولا طقوس، مقتصر على العبادة الداخلية المحضة لله الأعلى، وعلى الواجبات الأخلاقية الأبدية يكون دين الإنجيل النقي والبسيط، التوحيد الحقيقي وهو ما يمكن أن نسميه: القانون الإلهي الطبيعي.
الثاني: وهو مدون في بلد وحيد يمنحه آلهته وشفعاؤه الخاصون وحماته وله عقائده وطقوسه وعبادته الخارجية المفروضة بالقوانين وفيما عدا الأمة التي تعتنقه، يكون كل إنسان بالنسبة له كافرًا، أجنبيًّا، بربريًّا، وهو لا يمد واجبات الإنسان وحقوقه خارج حدود هياكله. كانت هذه هي أديان الشعوب الأولى جميعها التي يمكن أن نطلق عليها اسم القانون الإلهي المدني أو الوضعي.