للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٤ ـ إعطاء الكل والتركيز على البعض:

ذكر الفخر الرازي رأيًّا يقرب من الرأي السابق فقال: إن القرآن يشتمل على دعوة الخواص والعوام، وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمور عن إدراك الحقائق , فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه ظن أن هذا عدم ونفي محض، فيقع في التعطيل , فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما تخيلوه وما توهموه، ويكون ذلك مخلوطًا بما يدل على الحق الصريح.

فالقسم الأول: وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر من باب المتشابه.

والقسم الثاني: "وهو الذي يكشف عن الحق الصريح هو المحكم".

وعبر عنه الشيخ عبده بتعبير آخر فقال:

"إن الأنبياء بعثوا إلى جميع الأصناف من عامة الناس وخاصتهم وفيهم العالم والجاهل والذكي والبليد، وهناك من المعاني ما لا يمكن التعبير عنه بعبارة تكشف عن حقيقته وتشرح كنهه بحيث يفهمه الجميع على السواء، وإنما يفهمه الخاصة منهم عن طريق الكناية والتعريض ويؤمر العامة بتفويض الأمر فيه إلى الله تعالى والوقوف عند حد المحكم فيكون لكل نصيبه على قدر استعداده" (١) .

ويعلق السيد الحكيم على هذا النص بعد رد إشكال العلامة عليه فيقول: "إذا عرفنا دور المحكم والمتشابه أمكننا أن نتصور بسهولة أن بعض المعاني لا يدركها إلا الراسخون في العلم دون العامة خصوصًا المعاني التي ترتبط ببعض المعلومات الكونية الطبيعية كجريان الشمس {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} أو تلقيح الرياح {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} أو جعل الماء مصدرًا للحياة {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} فإن كل هذه المعلومات حين تتكشف لدى العلماء تكون من المعلومات التي أشار إليها القرآن الكريم ويعرفها الخاصة دون غيرهم" (٢) .

ومما يؤكده أن الراغب الأصفهاني في مفرداته ذكر أن من المتشابه ما "يجوز يختص بمعرفة حقيقته بعض الراسخين في العلم ويخفي على من دونهم وهو الضرب المشار إليه بقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ في علي رضي الله عنه: ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)) " (٣) .

فتكون بعض الآيات متوجهة إلى القادة الفكريين بالخصوص على أساس أنهم سيعرفون الواقع المراد بالتفصيل للأمة ككل.

ولعله إلى مثل هذا الرأي يشير الزرقاني فيقول: في مجال تعدد الحكم من "وجود المتشابه".

"أولاهما: رحمة الله بهذا الإنسان الذي لا يطيق معرفة كل شيء، وإذا كان الجبل حين تجلى له ربه جعله دكًّا وخر موسى صعقًا فكيف لو تجلى سبحانه بذاته وحقائق صفاته للإنسان؟ ومن هذا القبيل أخفى الله على الناس معرفة الساعة رحمة بهم كي لا يتكاسلوا ويقعدوا عن الاستعداد لها، وكي لا يفتك بهم الخوف والهلع أو أدركوا بالتحديد شدة قربها منهم ولمثل هذا حجب الله عن العباد معرفة آجالهم، ليعيشوا في بحبوحة أعمارهم" (٤) .

وواضح أن هذا النص غير دقيق في تعبيره وإلا فلا معنى لتصور إمكان تجلي الله تعالى بذاته وحقائق صفاته وإنما يقصد أن النفس والتصور الإنساني يكلّ غالبًا عن تصور أقصى ما يمكن تصوره في الساحة الآلهية.

كما أن من الواضح أنه يجمع إلى صف هذه الحكمة (حكمة إعطاء الناس على قدر إمكاناتهم) حكمة بث الأمن والأمل بإخفاء بعض الأمور عنهم جامعًا الحكمتين تحت عنوان رحمة الله بالإنسانية.


(١) تفسير المنار: ٣/ ١٧٠ ـ ١٧١
(٢) رسالة الإسلام، العددان ٥، ٦، السنة الثانية: ص ٢٨
(٣) معجم المفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني: ص ٢٦١ ـ ٢٦٢
(٤) مناهل العرفان: ٢/ ١٧٨

<<  <  ج: ص:  >  >>