للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(ج) نصابها:

١٩ – لقد بينت آية الدين أن نصاب الشهادة على الدين هو: إما رجلان، أو رجل وامرأتان ممن يرتضى من العدول الثقات، فإذا تحقق ذلك كان وثيقة معتبرة وحجة شرعية في إثبات الدين، وبينة قوية يعتمد عليها القاضي في الحكم به لطالبه.

ولا يخفى أن شهادة الرجلين بينة كاملة، يقع بها الإثبات في جميع الحقوق والديون والجنايات سوى حد الزنا عند سائر الفقهاء. قال الإمام القرافي: (ما علمت عندنا ولا عند غيرنا خلافًا في قبول شهادة شاهدين مسلمين عدلين في الدماء والديون) (١) .

أما شهادة الرجل مع المرأتين، فقد اتفق الفقهاء على أنه يثبت الدين بها أمام القضاء، وأنها وثيقة معتبرة لحفظه بنص الآية (٢) ، وإنما شرطت كون الرجل معهن، لئلا يكونه لهن رتبة الاستقلال (٣) .

قال إلكيا الهراسي: (اعلم أن ظاهر الآية يقتضي أن تكون شهادة النساء شهادة ضرورة معدولًا بها عن أصل الشهادة، فإنه قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} ، فاقتضى الظاهر عدم القدرة على الرجلين، إلا أنه جُوِّزَ على خلاف الظاهرة للإجماع " (٤) .

وقال القاضي ابن العربي: (قال علماؤنا: قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} من ألفاظ الأبدال، فكان ظاهره يقتضي ألا تجوز شهادة النساء إلا عند عدم شهادة الرجال كحكم سائر أبدال الشريعة مع مبدلاتها، وهذا ليس كما زعمه. ولو أراد ربنا ذلك لقال: (فإن لم يوجد رجلان فرجل) فأما وقد قال: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا} فهذا قول يتناول حالة الوجود والعدم) . (٥) .

أى إنه يكون على سبيل التخيير.

وقد أشارت الآية إلى أن الحكمة في جعل المرأتين بمنزلة الرجل الواحد في الشهادة، هي أن المرأة يغلب عليه النسيان والخطاء، وأن حفظها وضبطها – بحسب فطرتها وما جُبِلَت عليه – دون حفظ الرجال وضبطهم، فقال تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} . فَدَلت الآية على أن استشهاد امرأتين مكان رجل إنما هو لتنبيه أحدهما الآخرى إذا غفلت وإذكارها إذا نَسِيَتْ (٦) .

قال ابن العربي: (فإن قيل: فهلَّا كان امرأة واحدة مع رجل، فيذكرها الرجل الذي معها إذا نسيت، فما الحكمة فيه؟!

فالجواب فيه: أن الله سبحانه شرع ما أراد، وهو أعلم بالحكمة وأوفى بالمصلحة، وليس يلزم أن يعلم الخلق وجوه الحكمة وأنواع المصالح في الأحكام. وقد أشار علماؤنا أنه لوذَكَّرَهَا إذا نسيت لكانت شهادة واحدة، فإذا كانت امراتين وذكرت إحدها الأخرى، كانت امرأتين وذكرت إحداهما الأخرى، كانت شهادتهما شهادة رجل واحد كالرجل يستذكر في نفسه فيتذكر) (٧) .


(١) الفروق، للقرافي: ٤/٨٦.
(٢) المغني، لابن قدامة: ٩/١٥١.
(٣) أحكام القرآن، لإلكيا الهراسي: ١/٣٨٧؛ والأم، للشافعي: ٧/٨٥.
(٤) أحكام القرآن، لإلكيا الهراسي: ١/٣٨٦.
(٥) أحكام القرآن، لابن العربي: ١/٢٥٢. وانظر: أحكام القرآن، للجصاص: ١/٥٠١.
(٦) الطرق الحكمية: ص١٠٥.
(٧) أحكام القرآن لابن العربي: ١/٢٥٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>