للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(خامسًا) إن حاجة الناس إلى توثيق ديونهم بالكتابة قائمة لرفع الحرج والمشقة منهم، خصوصًا في هذا العصر حيث كثرت المعاملات المالية بين الناس وتشعبت صورها وحالاتها وتجاوزت حدود الدولة الواحدة إلى البلدان المختلفة والقارات المتباعدة، وانتشر التزام الدين فيها ... فلو لم يتكن الكتابة معتمدة في توثيق الديون لتعطلت مصالح الناس، وضاع الكثير من حقوقهم وأموالهم لعدم توفر الشهود دائمًا عند كل تعامل بالدين، وحتى لو وجدوا عند المعاملة، فقد يغيبون عند التنازع والخصومة أمام القضاء أو ينسون أو يموتون قبل ذلك (١) . ولا ريب أن رفع الحرب والمشقة عن العباد من المقاصد الحاجية التي جاءت الشريعة لإيجادها وتثبيت أركانها وصونها عن كل ما يؤدي إلى الإخلال بها أو تضييعها.

ثم إن حاجة المتعاملين بالدين إلى اعتماد الكتابة في توثيق الديون تعتبر من قبيل الحاجة الخاصة التي تنزل منزلة الضرورة، حيث جاء في القواعد الفقهية الكلية "الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة " (٢) .

(سادسًا) إن ما استدل به المانعون من الاعتماد على الكتابة – من أن الخطوط تتشابه، وقد يدخلها التزوير والمحاكاة، وقد تكتب للتجربة أو اللهو، فلذلك لا تفيد الطمأنينة على حقيقة ما تضمنته – غير مسلم؛ إذ يرد عليه أمران:

(أ) أن الاعتماد على الكتابة لا يجري مع قيام تلك الشبهات والاحتمالات أصلًا، يقول ابن القيم: " فإن القصد حصول العلم بنسبة الخط إلى كاتبه. فإذا عرف ذلك وتيقن، كان كالعلم بنسبة اللفظ إليه، فإن الخط دال على اللفظ، واللفظ دال على القصد والإرادة، وغاية ما يقدر اشتباه الخطوط، وذلك كما يقرض من اشتباه الصور والأصوات، وقد جعل الله سبحانه في خط كل كاتب ما يتميز به عن خط غيره كتميز صورته وصوته " (٣) .


(١) أصول المحاكمات الشرعية والمدنية: ص١٩٤.
(٢) الأشباه والنظائر، للسيوطي: ص ٨٨ و ٣٢ من مجلة الأحكام العدلية؛ والأشباه والنظائر، لابن نجيم: ص١٠٠.
(٣) الطرق الحكمية: ص٢٠٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>