إِن قيل إِنَّه يَأْمَن ذَلِك لقَوْل الله لَهُ إِنَّك لَا تحكم إِلَّا بِالْحَقِّ وَالصَّوَاب قيل لَا يجوز أَن يَقُول لَهُ ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يسْتَمر بالمكلف اخْتِيَار الصّلاح دون الْفساد من غير علم بأعيان الصّلاح وَالْفساد كَمَا لَا يجوز اتِّفَاق الْأَفْعَال الْكَثِيرَة المحكمة من غير علم وكما لَا يجوز أَن يتَّفق من الْإِنْسَان الصدْق فِي الْأَخْبَار الْكَثِيرَة من غير أَن يتخللها كذب من غير علم وَلَو جَازَ ذَلِك لَخَرَجت الْأَخْبَار عَن الغيوب من أَن تكون دلَالَة على نبوتهم ولجاز أَن يُكَلف تَصْدِيق نَبِي دون من لَيْسَ بِنَبِي من غير علم وَلَو جَازَ اتِّفَاق اخْتِيَار الصَّوَاب من الْعَالم جَازَ اتفاقه من الْعَاميّ فيتعبده الله بالحكم بِاخْتِيَارِهِ وَلَيْسَ للمخالف أَن يَقُول إِن الْأَنْبِيَاء وَالْعُلَمَاء قد أكْرمهم الله وخصهم بذلك لِأَن إِمْكَان اتِّفَاق ذَلِك لَا يفْتَرق فِيهِ الْعَاميّ والعالم
فان قيل إِنَّمَا يمْتَنع اتِّفَاق اخْتِيَار الصَّوَاب الْكثير من غير دلَالَة فَأَما الْقَلِيل فَلَا يمْتَنع اتِّفَاق الصَّوَاب فِيهِ فَيجوز أَن يُفَوض الله تَعَالَى إِلَى بعض الْمُكَلّفين الحكم بِاخْتِيَارِهِ فِي الْفِعْل والفعلين وَالثَّلَاثَة قيل قد أُجِيب عَن ذَلِك بِأَن الْوَاجِب فِي التَّكْلِيف أَن يكون الْمُكَلف عَالما بِحسن مَا يقدم عَلَيْهِ من الْأَفْعَال قبل إقدامه وَهُوَ لَا يعلم ذَلِك إِذا علق الْفِعْل بِاخْتِيَارِهِ لِأَنَّهُ كَمَا يجوز أَن يخْتَار الصّلاح يجوز أَن يخْتَار الْفساد وَلِأَن حسن اخْتِيَاره للْفِعْل تَابع لحسن الْفِعْل فَلم يجز أَن يعلم حسنه لعلمه بِحسن اخْتِيَاره لَهُ
وَلقَائِل أَن يَقُول إِن مَا ذكره من أَنه لَا يجوز اسْتِمْرَار اخْتِيَار الْمصلحَة دون الْمفْسدَة من غير علم بِالْمَصْلَحَةِ صَحِيح إِذا كَانَ الْفِعْل مصلحَة من دون الِاخْتِيَار فَيمْتَنع أَن يتَّفق اختيارنا للْمصْلحَة دون الْمفْسدَة فَأَما إِذا كَانَ كَونه مصلحَة هُوَ فعلنَا لَهُ وَنحن مختارون لَهُ فَلَيْسَ يبطل بِمَا ذكره لِأَنَّهُ وَالْحَال هَذِه لم يتَّفق تنَاول الِاخْتِيَار لما هُوَ مصلحَة فِي نَفسه من دون الِاخْتِيَار بل الْمصلحَة هُوَ مَجْمُوع الْفِعْل وَالِاخْتِيَار فَلَو صَحَّ مَا ذكره لصَحَّ أَن يَقُول من نفى الْقيَاس إِن الأمارات قد تخطىء وتصيب وَلَيْسَ يتَّفق فِيهَا الصَّوَاب أبدا