ثم قال على نحو ما قدمه: ولعل الأيام تعتقد أن من سكن بغداد وقطنها، وأستقر بها وأستوطنها (ليس ممن في كنفه، أو في حماية سيفه)، فأن البعد مع لصوق القرابة عضبة، والحلول بالمحل القريب من قلبه.
ثم قال مشيرا إلى الأيام: ولعلها تظن أن وطن الإنسان أقعد به من جده، وأن تباعده فيه يقطعه عمن يفارقه من أهله، فلذلك خالفت الأيام عضد الدولة في عمته المفقودة ببغداد، فلم يكتنفها ما يكتنف سائر أقاربه المستقرين بدار سلطانه، وموضع استيطانه، من نساء العمر، والتباعد بسعادته عن حوادث الدهر. وهذا على نحو الإفراط المتقدم الذي وصف فيه المعزى بما لا يمكن، إشارة إلى أنه قد بلغ في الإقبال غاية ما يمكن.
أَخَافُ أَنْ يَفطُنَ أَعداؤُهُ ... فَيُجفِلوا خَوفاً إلى قُربِهِ
لابُدَّ لِلإنسَانِ مِنْ ضَجعَةٍ ... لا تَقْلِبُ المُضجَعَ عَنْ جَنبِهِ
يَنسَى بِهَا ما كَانَ مِنْ عُجبِهِ ... وما أَذَاقَ المَوتُ مِنْ كَربِهِ
الإجفال: الإسراع.
فيقول: أخاف أن يفطن أعداؤه لما يصحب المتصلين به من حفظ الله بجملتهم، وحراسته لجماعتهم، فيجفلوا مبادرين إليه، ويترادفوا وافدين عليه، رجاء في أن تحيط بهم سعادة قربه، والاعتصام بتداني محله.
ثم قال مبينا للصدق فيما قدمه، وكاشفا لقناع الحق فيما ظاهر به وموهه، ومخبرا بأن الموت لا منجا منه، ولا محيص لأحد عنه: لابد للإنسان من ضجعة بالمنية لا تقلبه عن جنبه، ولا تملكه شيئا من أمره، تطرقه بأجله، وتسلمه إلى ما قدمه من عمله.
ثم قال مخبرا عن الإنسان: ينسى بتلك الضجعة ما كان عليه من العجب، وما قاساه عند الموت من شدة الكرب، بما يشرف عليه من هول المطلع، وما يكتنفه