والضرورة عند علماء الكلام ينبغي التسليم لها بدون حاجة إِلَى تفكير، لأن من العلم ما يسمى بالعلم الضروري، وهو ما يسبق إِلَى الذهن الإيمان به قبل التفكير فيه، كما تعلم أن الواحد أقل من الاثنين، وهذه ضرورة يجدها كل إنسان في نفسه وهي: أنه إذا أراد أن يدعو الله، أو يتوجه إليه، أو يستغيث به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بل إذا ذكر الله بقلبه، فإن شعوره وإحساسه بالضرورة يتجه إِلَى جهة العلو قبل أن يعرض الموضوع عَلَى عقله. فضرب أبو المعالي بكُمِه ولطم وتحير، وقَالَ: حيرنيالهمداني حيرني الهمداني، ونزل من عَلَى المنبر. ثم تاب
فهذا الموضوع تدل عليه الأدلة من الكتاب والسنة والفطرة السليمة ولا يحتاج أمره إِلَى نبوة فهناك أناس كانوا يعيشون في الفترات بين بعثات الأَنْبِيَاء يُقرون بالعلو، منهم أمية بن أبي الصلت فإنه أقر بذلك في شعره، ولم يكن مؤمناً، والعرب تقر بذلك إقراراً في جميع أشعارها وأخبارها، حتى أنعنترة الشاعر المشهور يقول في أول قصيدة له:
يا عبل أين من المنية مهرب إن كَانَ ربي في السماء قضاها
وعنترة جاهلي مشرك كافر لكنه أثبت أمرين مهمين مما جادل فيه المجادلون: العلو والقدر.
أما الاستواء فإنما ثبت بالنقل، أي أنه: لو لم يخبرنا الله أنه استوى عَلَى العرش لما عرفنا أن له عرشاً استوى عليه، والقول بأنه في كل مكان ليس عليه دليل حقيقة، لكن قد يشتبه أمره عَلَى ضعاف العقول، الذين لم يفهموا حقيقة هذا الدين، ولم يفهموا حقيقة الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، فيشتبه عليهم قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:٤] وهذه شبهة ضعيفة جداً، لكنها قد تقع، فإذا جليت الشبهة، ذهبت أمام الحقائق الواضحة، وأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليس معنا بذاته، وإنما بعلمه فهذا الموضوع الثالث فيه شبهة ضعيفة.