للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ومن ذلك أنهم اخترعوا هذه الشبهة التي لا أصل لها في لغة العرب وهي قولهم: إن (لن) في لغة العرب تنفي نفياً مؤبداً، يعني: نفياً قطعياً إِلَى مالا نهاية، فكأنك إذا قلت -لن أدخل بيت فلان- فمعنى ذلك: النفي المؤبد الذي لا يمكن أن يكون فيه استثناء.

ولكننا نجد أن هناك من يقول: " لن أفعل كذا " ويفعله في ذلك اليوم أو في اليوم الثاني، ويكون منتهى ما يدل عليه ذلك النفي، أنه لن يفعل في ذلك الوقت الذي عرض عليه أن يفعله، ولا أكثر من ذلك، أما أن يحمل هذا الأسلوب -وهو استخدام "لن" مع الفعل- عَلَى النفي المطلق إِلَى ما لا نهاية، فهذا من الغلو ومن التعسف الذي لا أصل له، ولكن القلوب المريضة تتصيد الشبهات وتتبعها لتزيغ وتزداد زيغاً وضلالاً.

وهكذا فعل المعتزلة ومن وافقهم فَقَالُوا: إن "لن" للتأبيد المطلق، ولما قَالَ: " لن تراني " أي لا يمكن بأية حال من الأحوال أن تراني لا في هذه الدنيا، ولا في الآخرة إِلَى أبد الآبدين وما لا نهاية، ولذلك أخذ المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- يرد عليهم.

فبين رَحِمَهُ اللَّهُ أن هذا القول باطل وفاسد لوجوه عديدة منها:

الوجه الأول: أنه حتى لو قيد بالأبد لما دلت عَلَى ذلك. فلو أنه قَالَ: "لن تراني أبداً" لما دل ذلك عَلَى نفي الرؤية مطلقاً إِلَى ما لا نهاية له؛ لأن "الأبد" هنا له غاية محدودة هو هذه الحياة الدنيا، فإن الكلام إنما هو في الدنيا. وقد سأل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عبدُه وكليمُه موسى عَلَيْهِ السَّلام الرؤيةَ في الدنيا، فأجابه الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في حدود هذه الدنيا، ولم يتَعرض لقضية الآخرة والأزل في هذا الموضوع. فكيف وقد جاءت مطلقة لا مقيدة، فلم يأت فيها " أبداً "، ولم يقل الله "لن تراني أبداً" وإنما قَالَ: لَنْ تَرَانِي مع أنه في لغة العرب حتى ولو قال أحد: لن أفعل أبداً. لما دلّ ذلك عَلَى أن النفي سيستمر إِلَى قيام الساعة، وما بعد قيام الساعة.

<<  <   >  >>