تؤخر الوسطى، أي: قوله: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي}، عن الأخرى، وهي:{أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ}، فلا يحسن الأول؛ لما يلزم منه الافتراق بين الأقوال الثلاثة المنتظمة، واختلاط كلام الغير بها، ولا الثاني وإن انتظمت الأقوال، واتصل الجواب بالسؤال؛ لما يلزم منه تفكيك الترتيب من حيث المعنى، وهو أولى بالمراعاة من اللفظ؛ لأن التحسر مقدم على التعلل، وهو على التمني؛ لأن النفس عند رؤية أهوال يوم القيامة ترى الناس مجزئين بأعمالهم تتحسر على تفوتها عليها، ثم قد يتعلل بأن لم يكن التقصير مني، فلو هداني الله لكنت من المتقين، فإذا تفكر وعلم أن التقصير كان منه يتمنى الرجوع لتلافي ما فوته {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ}، فلو قدم شيء من ذلك لا ينقض الالتئام.
وقلت -والله أعلم-: قد مر أن الخطاب بقوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} عام شامل للمسرفين كلهم، وأن المقصود الأولي منهم المشركون، وكذلك قوله:{وَأَسْلِمُوا} هو المطلوب الأولي، وان التنكير في {نَفْسٌ} يجوز أن يكون للتكثير، فكأنه قيل: قل: يا عبادي الذين فرطت منهم سقطات لا تقنطوا من رحمتي، وأنيبوا وأسلموا، واتبعوا ما أنزلت إليكم، أي: أجمعوا كلكم على الرجوع إلى الله بالتوبة، وأحدثوا الإسلام، واقرنوا بها الأعمال الصالحة من قبل أن يفجأكم ما يفوت عليكم، فتفترق كل نفس بما يلزمها من طائرها في عنقها، فتقول النفس المفرطة: يا حسرتى على ما فرطت في طاعة الله، وقصرت عن متابعة ما أنزل الله تعالى، والحال أني سخرت. وتقول النفس الكارفة المكذبة: لو أن الله هداني، أي: دعاني إلى الإسلام، لكنت من الذين اجتنبوا عن الشرك، وتقول النفس الأبية المعرضة: لو أن لي كرة فأكون من الذين أحسنوا في الرجوع إلى الله والإنابة، فيقال لكل واحد منهما: أيتها المكذبة، بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها، أي: دعوناك إلى الإسلام، فاستكبرت واستمررت على كفرك، حيث كنت من مرة الكاملين في الكفر. ولهذا ذكر الضمير في:{جَاءَتْكَ}، ولم يؤنثها باعتبار النفس، فظهر أن "أو" العاطفة لتنويع الأنفس، أو بمعنى "بل".