للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وكان هؤلاء المناظرون تتفاوت بهم الحال فيما يستعملونه في المناظرة، فإذا عرف بعض الفقهاء ببراعتهم في النظر العقلي واستعمال الأقيسة، فإن منهم من كان يبزُّ أقرانه في معرفة الحديث والاستشهاد به. فذكر مثلًا في ترجمة الكيا الهراسي (ت ٥٠٤ هـ) أنه كان يستعمل الأحاديث في مناظراته ومجالسه، وكان يقول: (إذا جالت فرسان الأحاديث في ميادين الكفاح، طارت رؤوس المقاييس في مهاب الرياح) (١).

فالمقصود أن الفقهاء كان لهم بالمناظرات عناية بالغة واشتغال بيِّن لا يخفى على عامة الناس فضلًا عن خاصتهم، وكانت ميدانًا له فرسانه ورجاله، حتى كان الفقيه إذا قعد مقعد شيخه في المناظرة فربما أصابته الهيبة وغشيته الرهبة، ومن أولئك أبو الحسن القابسي القروي المالكي (ت ٤٠٣ هـ) الذي تمثَّل في أول مجلس له للمناظرة:

لعمر أبيك ما نُسب المعَّلى... إلى كرم وفي الدنيا كريم

ولكن البلاد إذا اقشعرت... وصوَّح نبتها رعي الهشيم

ثم بكى حتى بكى الناس، وقال: أنا الهشيم أنا الهشيم، والله لو أن في الأرض خضراء ما رُعيت أنا (٢).

وهذه البراعة في المناظرات لم تكن لتتهيأ لهؤلاء السادة وتتطور في أدواتها ومعارفها، لو لم يكن لها طرائق علمية ومنهجية معلومة يتعلمها المناظر عن شيوخه ويتخرج بها عليهم (٣). فكانوا يتعلمون الجدل والمناظرة وآداب البحث عن شيوخهم، ثم يشهدون حلق المناظرة ومجالسها فيتدربون فيها، وكانوا يسألون شيوخهم عقد المجالس لها ويتطلبونها من المقدَّمين فيها.

قال ابن السني (ت ٣٦٤ هـ): (ولا بأس أن يتحاوروا بحضرة العالم في


(١) وفيات الأعيان، ابن خلكان (٣/ ٢٨٧).
(٢) انظر: وفيات الأعيان، ابن خلكان (٣/ ٣٢١)، والبيتان لأبي علي البصير، راجع ديوانه (٣٦).
(٣) انظر: خطاب المناظرة في التراث العربي الإسلامي، د. عبد اللطيف عادل (١٤٢)، بواسطة: خطاب المناظرة في الأدب الأندلسي، د. محمد أبحير (٧٥).

<<  <   >  >>