للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

الممهدات)): (فإن بعض أصحابنا المجتمعين إلى المذاكرة والمناظرة في مسائل كتب المدونة، سألني أن أجمع له ما أمكن مما كنت أورده عليهم عند استفتاح كتبها وفي أثناء بعضها، مما يحسن المدخل به إلى الكتاب) (١).

فمما تقدم ذكره يعلم أن الداعي إلى المناظرة مما تختلف به الأمصار، وربما اشتهر قطر من الأقطار أو ناحية من النواحي بكثرة النظار فيها؛ لمحلهم من الاشتغال بالمناظرة وإدمانهم الحضور في مجالسها ومجامعها، فبزُّوا غيرهم من الفقهاء الذين ربما كانوا أمكن في العلم منهم. وقد اشتهر طوائف من الفقهاء بالمناظرة حتى بات الناس يتعلمون منهم رسومها وشروطها وآدابها، ومن هؤلاء الإمام الشافعي (ت ٢٠٤ هـ) كما مضت الإشارة إلى ذلك، وقد حكى الربيع بن سليمان (ت ٢٧٠ هـ) فقال: (كنا جلوسًا في حلقة الشافعي بعد موته بيسير، فوقف علينا أعرابي فسلم ثم قال لنا: أين قمر هذه الحلقة وشمسها؟ فقلنا: توفي رحمه الله، فبكى بكاء شديدًا، وقال: توفي رحمه الله وغفر له، فلقد كان يفتح ببيانه منغلق الحجة، ويسد على خصمه واضح المحجة، ويغسل من العار وجوهًا مسودَّة، ويوسع الرأي أبوابًا منسدة. ثم انصرف) (٢). وقال النووي (ت ٦٧٦ هـ) واصفًا براعة الشافعي: (ومن ذلك أن الشافعي رحمه الله مكنه الله تعالى من أنواع العلوم، حتى عجز لديه المناظرون من الطوائف وأصحاب الفنون، واعترف بتبريزه وأذعن الموافقون والمخالفون في المحافل الكثيرة المشهورة المشتملة على أئمة عصره في البلدان، وهذه المناظرات موجودة في كتبه وكتب العلماء معروفة عند المتقدمين والمتأخرين. وفي كتاب الأم للشافعي رحمه الله من هذه المناظرات جمل من العجائب والنفائس الجليلات والقواعد المستفادات، وكم من مناظرة واقعة فيه يقطع كل من وقف عليها وأنصف وصدق أنه لم يُسبق إليها) (٣). ومنهم أشهب بن عبد العزيز


(١) المقدمات الممهدات (١/ ٩). وانظر أيضًا في المناظرة في المدونة: فهرس ابن عطية (١٢٥)، التعريف بالقاضي عياض، محمد بن عياض (١٠).
(٢) الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي (٤٩٢).
(٣) تهذيب الأسماء واللغات (١/ ٥٠).

<<  <   >  >>