وبالجملة فقد كانت هذه المناظرات تجري حيث يلتقي الفقهاء من الأماكن العامة والخاصة، حتى كانت تعقد في المكتبات العامة ودور الورَّاقين (١)، بل من الطريف الذي يذكر أن هذه المناظرات ربما جرت في مجالس العزاء، فتكون مداولة مسائل الفقه من خير ما تقضي به الأوقات ويغتنم اجتماع الفقهاء فيها، ويحكي أبو الوليد الباجي (ت ٤٧٤ هـ) مناظرة حضرها لما توفيت زوجة أبي الطيب الطبري (ت ٤٥٠ هـ) فيقول: (العادة ببغداد أن من أصيب بوفاة أحد ممن يكرم عليه قعد أيامًا في مسجد رَبَضِه يجالسه فيها جيرانه وإخوانه، فإذا مضت أيام عزوه وعزموا عليه في التسلي والعودة إلى عادته من تصرُّفه. فتلك الأيام التي يقعد فيها في مسجده للعزاء مع إخوانه وجيرانه لا تقطع في الأغلب إلا بقراءة القرآن، أو بمناظرة الفقهاء في المسائل، فتوفيت زوجة القاضي أبي الطيب الطبري وهو شيخ الفقهاء ذلك الوقت ببغداد وكبيرهم، فاحتفل الناس بمجالسته، ولم يكد يبقى أحد منتم إلى علم إلا حضر ذلك المجلس، وكان ممن حضر ذلك المجلس القاضي أبو عبد الله الصيمري (ت ٤٣٦ هـ)، وكان زعيم الحنفية وشيخهم، وهو الذي كان يوازي أبا الطيب في العلم والشيخوخة والتقدم، فرغب جماعة من الطلبة إلى القاضيين أن يتكلما في مسألة من الفقه يسمعها الجماعة منهما وتنقلها عنهما، وقلنا لهما: إن أكثر من في المجلس غريب قصد إلى التبرك بهما والأخذ عنهما، ولم يتفق لمن ورد منذ أعوام جمة أن يسمع تناظرهما إذ كانا قد تركا ذلك منذ أعوام، وفوَّضا الأمر في ذلك إلى تلاميذهما، ونحن نرغب أن يتصدقا على الجمع بكلامهما في مسألة يُتجمل بنقلها وحفظها وروايتها. فأما القاضي أبو الطيب فأظهر الإسعاف بالإجابة، وأما القاضي أبو عبد الله فامتنع من ذلك، وقال: من كان له تلميذ مثل أبي عبد الله يريد الدامغاني (ت ٤٧٨ هـ) لا يخرج إلى الكلام، وها هو حاضر من أراد أن يكلمه فليفعل، فقال القاضي
(١) انظر: موسوعة الوراقة والوراقين، د. خير الله سعيد (١/ ٣٨٧)، الورق والوراقون في العصر العباسي، هالة شاكر (٢٣٧).