ويَحْتَمِل أن يكون ذلك على جهة الإغياء، والأوّل أَولى، والله تعالى أعلم.
وقوله:"إن فضل العالم على العابد، كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب": هذه المفاضلة لا تصحّ حتى يكون كل واحد منهما قائمًا بما وجب عليه من العلم والعمل، فإنَّ العابد لو ترك شيئًا من الواجبات، أو عَمِله على جهل لم يستحقّ اسم العابد، ولا تصحّ له عبادة، والعالم لو ترك شيئًا من الواجبات لكان مذمومًا، ولم يستحقّ اسم العالم، فإذًا محل التفضيل إنما هو في النوافل، فالعابد يستعمل أزمانه في النوافل من الصلاة، والصوم، والذكر، وغير ذلك، والعالم يستعمل أزمانه في طلب العلم، وحِفظه، وتقييده، وتعليمه، فهذا هو الذي شئهه بالبدر؛ لأنَّه قد كَمُل في نفسه، واستضاء به كل شيء في العالم، من حيث إن علمه تعدّى لغيره، وليس كذلك العابد، فإنَّ غايته أن ينتفع في نفسه، ولذلك شبَّهه بالكوكب الذي غايته أن يُظهر نفسه.
وقوله:"وإن العلماء ورثة الأنبياء" إنما خصّ العلماء بالوراثة، وإن كان العبّاد أيضًا قد ورثوا العلم بما صاروا به عبّادًا؛ لأنَّ العلماء هم الذين نابوا عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في حَمْلهم العلم عنه، وتبليغهم إياه لأمته، وإرشادهم لهم، وهدايتهم.
وبالجملة فالعلماء هم العالمون بمصالح الأمة بعده، الذابّون عن سُنَّته، الحافظون لشريعته، فهؤلاء الأحقّ بالوراثة، والأولى بالنيابة والخلافة، وأما العبّاد فلم يُطلق عليهم اسم الوراثة؛ لقصور نفعهم، وقلّة حظهم.
وقوله:"إن الأنبياء لم يورّثوا دينارًا ولا درهمًا"؛ يعني: أنهم - صلوات الله عليهم - كان الغالب عليهم الزهد، فلا يتركون ما يورَث عنهم، ومن ترك منهم شيئًا، يصحّ أن يورَث عنه تصدّق به قبل موته، كما فعل نبينا - صلى الله عليه وسلم - حين قال:"لا نورَث، ما تركنا صدقة"، متّفقٌ عليه.
وقوله:"فمن أخذه أخذ بحظ وافر"؛ أي: بحظ عظيم، لا شيء أعظم منه، ولا أفضل، كما ذكرناه. انتهى كلام القرطبيّ رَحِمَهُ اللهُ (١)، وهو بحث نفيش، والله تعالى أعلم.