مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: ٦٦]، ورحل جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أنيس - رضي الله عنهم - مسيرة شهر في حديث واحد، كما علّقه البخاريّ رَحِمَهُ اللهُ في "صحيحه" في "باب الخروج في طلب العلم"، وأخرج قصة موسى والخضر عليه السلام في ذلك الباب.
قال القرطبيّ رَحِمَهُ اللهُ: الحديث فيه الحضّ والترغيب في الرحلة في طلب العلم، والاجتهاد في تحصيله، وقد ذكر أبو داود هذا الحديث من حديث أبي الدرداء، وزاد زيادات حسنة، فقال: عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:"من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لَتَضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارًا، ولا درهمًا، ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر".
وهذا حديث عظيم يدلّ على أن طلب العلم أفضل الأعمال، وأنه لا يبلغ أحد رتبة العلماء، وإن رتبتهم ثانية عن رتبة الأنبياء.
وقوله:"إن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم": قيل: معناه: تخضع له، وتعظّمه، وقيل: تبسطها له بالدعاء؛ لأنَّ جناح الطائر يده.
وقوله:"وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض"؛ يعني بـ "من" هنا: من يعقل، وما لا يعقل، غير أنه غلب عليه من يعقل، بدليل أن هذا الكلام قد جاء في غير كتاب أبي داود، فقال:"حتى النملة في جُحرها، وحتى الحوت في جوف الماء"، وعلى هذا المعنى يدلّ - من حديث أبي داود هذا - عَطْف الحيتان بالواو على "من في السماوات، ومن في الأرض"، فإنَّه يفيد أن من يعقل، وما لا يعقل يستغفر للعالم، فأمَّا استغفار من يعقل فواضح، فإنَّه دعاء بالمغفرة، وأما استغفار ما لا يعقل، فهو - والله أعلم - أن الله يغفر له، ويأجره بعدد كل شيء لَحِقه أثرٌ من علم العالم.
وبيان ذلك: أن العالم يبيّن حكم الله تعالى في السماوات وفي الأرض، وفي كل ما فيهما، وما بينهما، فيغفر له ذنبه، ويعظم له أجره بحسب ذلك.